الجهة الثالثة
إنه لو شك في أنّ دخل الزمان في الواجب هل هو بنحو وحدة المطلوب أو بنحو تعدّده، فما هو مقتضى القاعدة ؟
ذهب الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني وأتباعهما إلى البراءة، لعدم جريان الاستصحاب، لعدم وحدة الموضوع، فقد كان مقتضى الدليل هو الصّلاة في الوقت وإذا خرج الوقت تغيّر الموضوع.
وخالف المحقق الإصفهاني ـ بعد أن وافق القوم في متن ( نهاية الدراية ) في الحاشية، وتبعه السيد الحكيم ـ فقال بجواز استصحاب شخص الموضوع، إذا كان المستصحب هو الواجب الخاص، وتوضيحه: إن الخصوصيّات قد تكون مقوّمة لحامل الغرض وأُخرى تكون ذات دخل في تأثير المقتضي كالشرائط مثل المماسّة بين المحرق والمحترق… وهذا ثبوتاً. وأمّا إثباتاً، فإن المقتضي للنهي عن الفحشاء هو ذات الصّلاة، وأمّا خصوصية الوقت والطهارة والساتر والقبلة ونحو ذلك، فلها دخلٌ في فعليّة تأثير المقتضي، وعليه، فإن الوجوب النفسي متوجّه إلى ذات الصّلاة، وتلك الخصوصيّات واجبات غيريّة، فإذا خرج الوقت ـ وهو من الخصوصيات ـ أمكن استصحاب وجوب الصّلاة، وهذه الذات هي نفسها الذات في داخل الوقت بالنظر العرفي.
وفيه: إن الملاك في وحدة الموضوع وعدمها في الإستصحاب هو نظر العرف، والموضوع فيما نحن فيه هو الصّلاة مع الطهارة لا ذات الصّلاة، لأنّ العرف لا يرى الإهمال في الموضوع ولا الإطلاق، بل يرى أنّ متعلّق الوجوب هو الصّلاة المقيّدة بالوقت وبالطهارة، فكان الوجوب متوجّهاً إلى هذا الموضوع الخاص، وهو في خارج الوقت متغيّر عن الذي كان في الوقت….
ثم إنّه بناءً على أنّ القضاء بأمر جديد في الصّلاة والصيام، فلو خرج الوقت وشكّ المكلّف في الإتيان بالواجب في وقته، هل يمكن إثبات فوت الفريضة باستصحاب عدم الإتيان بها أم لا ؟ وجهان!
فعلى القول: بأنّ موضوع وجوب القضاء هو « الفوت » وأنه أمر وجودي، كان استصحابه لإثبات عدم الإتيان بالفريضة أصلاً مثبتاً. أما على القول: بكونه عدمي، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، لتمامية أركانه حينئذ.
وقد ذهب الميرزا والسيد الخوئي إلى الأول، لكون المتفاهم عرفاً هو أنّ الفوت ذهاب الشيء من الكيس، وأنه ليس في نظرهم عين « الترك »، ولو شكّ في أنه وجودي أو عدمي، لم يجر الاستصحاب كذلك، لكونه حينئذ شبهةً مصداقية لدليل الاستصحاب.
وذهب الأُستاذ إلى أنه وإن كان لغةً كذلك، لكنّ العبرة في الاستصحاب بنظر العرف، وكونه وجوديّاً عندهم غير واضح، إن لم يكن عدميّاً.
لكنّ المهمّ هو أنه ليس موضوع وجوب القضاء في ظواهر النصوص، فكما جاء في بعضها عنوان « الفوت » كذلك يوجد عنوان « النسيان » و« الترك » و« عدم الإتيان » أيضاً.
ففي رواية: عن أبي جعفر عليه السلام: أنه سئل عن رجل صلّى بغير طهور أو نسي صلوات لم يصلّها أو نام عنها. قال: يقضيها… »(1).
وفي أُخرى: « كل شيء تركته من صلاتك… فاقضه… »(2).
وفي ثالثة: « إذا أُغمي عليه ثلاثة أيام فعليه قضاء الصلاة فيهن »(3).
وفي رابعة: « سألته عن الرجل تكون عليه صلاة في الحضر هل يقضيها وهو مسافر ؟ قال: نعم… »(4).
وفي أبواب الحج:
« سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل مات ولم يحج… »(5).
وفي أبواب الصوم(6):
« رجل مات وعليه قضاء من شهر رمضان. فوقّع عليه السلام: يقضى عنه… ».
« عن الرجل تكون عليه أيام من شهر رمضان كيف يقضيها… ؟ ».
وعلى الجملة، فقد قال الأُستاذ بجريان الاستصحاب في كلّ مورد جاء الموضوع فيه عدميّاً، وقد ظهر أنه ليس « الفوت » فقط، لو ثبت كونه وجوديّاً.
إذن، لا مانع من جريان الاستصحاب في فرض كون الشك بعد خروج الوقت.
وأمّا لو شك في الإتيان بالفريضة في داخل الوقت لا خارجه، فقد قالوا بوجوب الإتيان، للاستصحاب ولقاعدة الاشتغال، فإن مقتضاهما صدق عنوان « الفوت » بالنسبة إلى هذا المكلّف… وقد جاء في النصوص « من فاتته الفريضة فليقضها كما فاتته » وبهذا يظهر الفرق بين هذه الصّورة والصّورة السّابقة.
وقد أشكل عليه شيخنا: بأنّ قاعدة الاشتغال عقليّة، وهي لا تفيد الأحكام الظاهرية، فهي تفيد وجوب الإتيان وجوباً عقليّاً، وموضوع « من فاتته » هو الفريضة الشرعيّة، إذن، القاعدة العقليّة لا تثبت الفريضة، وإنّما تدعو إلى السّعي وراء إبراء الذمّة، وهذا أمر آخر.
وأمّا التمسك بالإستصحاب، فإنّما يتم بناءً على مسلك جعل الحكم المماثل، كما هو مختار صاحب ( الكفاية )، فيثبت به وجوب الصّلاة مثلاً ويتحقق موضوع « من فاتته ». أمّا على القول بأنّ مفاد أدلّة الاستصحاب ليس إلاّ التعبّد ببقاء اليقين السابق في ظرف الشك، فلا تثبت الفريضة ولا يتحقق موضوع « من فاتته »، وهذا مختار المحقق الإصفهاني، وعليه السيد الخوئي نفسه، وعليه، فمفاد الأدلّة إبقاء اليقين بعدم الإتيان بالصّلاة مثلاً، وهذا لا يثبت الفريضة إلاّ على الأصل المثبت.
وتلخّص: إن مقتضى الأدلّة الأوليّة هو كون القيد لتمام المطلوب، ومع الشك في كونه لذلك أو أنه قيد لأصل المطلوب، فلا يجري الاستصحاب الشخصي الذي ذكره المحقق الإصفهاني وتبعه السيد الحكيم، ولا الكلّي ـ القسم الثالث ـ لعدم تماميّته من حيث الكبرى… وأمّا القسم الثاني، فقد اختلفت كلمات السيد الخوئي في جريانه هنا وعدمه فقهاً وأُصولاً. والمختار: هو جريان استصحاب الكلّي، القسم الثاني، وفاقاً له في أُصوله.
(1) وسائل الشيعة 8 / 253 الباب الأول من أبواب قضاء الصلوات.
(2) وسائل الشيعة 8 / 265 الباب 4 من أبواب قضاء الصلوات.
(3) وسائل الشيعة 8 / 265 الباب 4 من أبواب قضاء الصلوات.
(4) وسائل الشيعة 8 / 268 الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات.
(5) وسائل الشيعة 11 / 72 الباب 28 من أبواب وجوب الحج.
(6) وسائل الشيعة 10 / 340 الباب 26 من أبواب أحكام شهر رمضان.