المقدّمة الأُولى ( في التحقيق عن منشأ الإشكال )
ففي المقدّمة الأُولى حاول التحقيق عن منشأ الإشكال والمحذور في الأمرين المتضادّين بالعرض، وأنّه هل هو في أصل وجودهما أو في إطلاقهما ؟
إن كان منشأ الإستحالة وجود الأمرين فهو صحيح، وأمّا إن كان المنشأ هو الإطلاق فيهما، فالمحذور مرتفع والترتّب ضروري. وبيان ذلك:
إنّه لو يكن بين الواجبين تضادّ، كما لو أمر بالصّلاة بنحو الاطلاق وأمر بالصوم كذلك، كان نتيجة الإطلاقين هو مطلوبية كليهما، والجمع بينهما ممكن ولا تضاد. أمّا لو قُيد أحدهما بأنْ قيل: صلّ فإن لم تصلّ فصُم، كان نتيجة التقييد عدم مطلوبيّة كليهما، فلو صلّى وصام لم يكن ممتثلاً لأمرين… هذا لو لم يكن تضادّ بين الواجبين.
فإن كانا متضادّين كالصّلاة في أوّل الوقت وإزالة النجاسة عن المسجد، فإنّ الإطلاق فيهما يقتضي أن يكون كلاهما مطلوبين. أمّا لو تقيّد أحدهما بترك الآخر وعصيانه، فوقوعهما على وجه المطلوبية محال.
والحاصل: إن كلّ دليل يشتمل على أصل الطلب وعلى إطلاق الطلب، والاستحالة إنّما تتحقّق من إطلاق الدليلين لا من أصل وجودهما، فلو حصل تقييد في أحد الطرفين لا يكونان مطلوبين، فلا يتحقّق طلب الضدّين وهو غير مقدور.
نتائج هذه المقدمة
ونتيجة هذا المطلب أُمور:
1 ـ إنّه إذا كان المحذور في إطلاق الدليلين، كان مقتضى القاعدة في سائر موارد التضاد سقوط الإطلاقين ـ بأن يقيّد الوجوب في كلّ من الدليلين بعدم الآخر، إن لم يكن أحدهما أهم من الآخر ـ وبقاء أصل الدليلين، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، وحينئذ، يكون المكلّف مخيّراً بينهما تخييراً عقليّاً. أمّا في صورة كون الدليلين بوجودهما منشأً للمحذور، كان مقتضى القاعدة سقوط كليهما من أصلهما، وحينئذ، يستكشف العقل خطاباً شرعيّاً تخييرياً بين الأمرين.
2 ـ إنّه عندما يكون المحذور في إطلاق كليهما، فلا محالة يتقيّدان ويكون شرط كلّ منهما ترك الآخر، فيجب إنقاذ هذا الغريق في حال ترك الآخر وكذلك العكس، وحينئذ، فلو ترك كليهما فقد تحقّق الشرط لوجوبهما معاً، فيكون قد ارتكب معصيتين ويستحق عقابين، لأنّه قد خالف خطابين فعليين، إذ الخطاب المشروط يكون فعليّاً بفعليّة شرطه، وقد كان الشرط في كلّ من الخطابين هنا ترك الآخر، والقدرة على الجمع بين التركين حاصلة، بخلاف ما لو كان المحذور في أصل وجود الدليلين وفرض سقوطهما وتحقّق حكم تخييري كما تقدّم، فإنّه لو ترك كليهما فقد ترك واجباً واحداً، فالمعصية واحدة والعقاب واحد.
اشكال الميرزا على الشيخ
3 ـ إنّه بعد تصوّر ما ذكر، يصير الأصل عبارةً عن أنّه في كلّ متزاحمين لابدّ من رفع اليد عن منشأ المحذور، وقد ظهر أنّه الإطلاق، وعليه، فالأصل في الخبرين المتعارضين ـ بناءً على السببيّة ـ هو التخيير، لأنّهما خطابان مشروط كلٌّ منهما بترك الآخر. فيرد الإشكال على الشّيخ: بأنّه كان عليه الإلتزام بسقوط الإطلاقين ـ لا أصل الخطابين ـ إن لم يكن بينهما أهم، وإن كان أحدهما أهم من الآخر سقط الإطلاق في طرف.
نقد الدفاع عن الشيخ
قال الأُستاذ
والحق: ورود هذا الإشكال على الشيخ. وما قد يقال في الدفاع عنه: من أنّ كلامه ـ حيث قال بصرف القدرة في أحد الضدّين في حال عدم صرفها في الآخر ـ إنّما هو في مرحلة الامتثال، وكلامنا ـ في الترتّب ـ يتعلّق بمرحلة الجعل والتشريع، فقد اختلط الأمر على الميرزا، لأن الشيخ قائل بالتزاحم والترتّب هناك لكونه في مقام الامتثال، ولا يقول به هنا لأنّه مقام الجعل. ففيه نظر من وجوه:
الأوّل: إنّ الشيخ وإن ذكر ذلك في مرحلة الامتثال، لكنّه أضاف: بأنّ المطلب كذلك في كلّ متزاحمين شرعيّين، فالميرزا قد تدبّر في كلام الشيخ، والمستشكل قد غفل عن هذه النكتة.
والثاني: إنّ مرحلة الامتثال ظلّ مقام الجعل والتشريع، والامتثال فرع التكليف، فيستحيل أن يتحقّق الترتّب في مرحلة الامتثال ولا يتحقّق في مرحلة الجعل، فلو لم يكن التكليف ترتّبياً، فالإمتثال الترتّبي محال.
والثالث: إنّ القواعد العقليّة غير قابلة للتخصيص، فإذا حكم العقل بالترتّب في مرحلة الإمتثال فهو حاكم به في مرحلة الجعل.
4 ـ قد ظهر أنّ إشكال المحقّق الخراساني ناشئ من مطلوبيّة الجمع بين الضدّين من جهة إطلاق الخطابين، لكنّ الميرزا يقول: بأنّ الترتّب رافع لهذا الإشكال، لأنّه ضد الجمع، بل يستحيل الجمع بناءً عليه، لأنّه مع حصول الإزالة فالصّلاة غير مطلوبة، وإنّما تكون مطلوبةً لو ترك الإزالة، فتركها بشرط وجوب الصّلاة، فأين مطلوبيتهما في آن واحد حتى يلزم التكليف بالمحال.
نعم، مع إطلاق الأمر بالأهم يكون الأمر به موجوداً في ظرف عصيانه، وهو ظرف وجود الأمر بالمهم، لكنّ اجتماع الطلبين غير اجتماع المطلوبين، وقد كان الإشكال هو لزوم اجتماع المطلوبين لا الطلبين، وبالترتّب ينتفي لزومه.
هذا تمام الكلام في المقدّمة الأُولى.