إستحالة الترتّب ببيان الكفاية
وذكر في ( الكفاية ) نظرية القائلين بالترتّب بنحوين فقال: « إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب على العصيان وعدم إطاعة الأمر بالشيء بنحو الشرط المتأخّر أو البناء على معصيته بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن، بدعوى أنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدين كذلك، أي: بأنْ يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً والأمر بغيره معلّقاً على عصيان ذاك الأمر أو البناء والعزم عليه، بل هو واقع كثيراً عرفاً »(1).
لكنّه يرى أن لا طريق إلاّ على نحو الشرط المتأخّر، بأن يكون المعصية على هذا النحو، لأنّ العبادة لابدّ وأن تنشأ من الأمر، فلو اشترط معصية الأهم بنحو الشرط المتقارن، فلابدّ وأن تتحقّق بفعل المهم، فلم ينشأ فعل المهم من الأمر به، لأن المفروض أن لا أمر به قبل معصية الأهم، أمّا لو تأخّرت المعصية عن الأمر، كان فعل المهمّ ناشئاً عن الأمر به، وأمّا العزم فلا تتحقّق به المعصية.
فقد قرّب صاحب الكفاية النظريّة بأنّه: لو كان الشرط هو العزم على المعصية فالمفروض عدم تحقّق المعصية، فالأمر بالأهم على حاله بنحو الإطلاق، والأمر بالمهمّ موجود مشروطاً، ومع اشتراط العزم على المعصية وتأخّرها، يكون فعل الضدّ ـ وهو المهم ـ ناشئاً من الأمر المتعلّق به والعزم على ترك الأهم. أمّا مع الإشتراط بالعصيان، فيعتبر أن يكون بنحو الشرط المتأخّر، لأنّه ترك الأهم وتركه في مرتبة واحدة مع فعل المهم، فلمّا كان العصيان شرطاً للأمر بالمهم، وقع فعل المهم في مرتبة متقدّمة على الأمر به، فيكون فرض العصيان بنحو الشرط المتأخّر.
وعلى أيّ حال، فقد أجاب عن هذا التقريب: بأنّ الأمر بالضدّين وطلبهما محال، سواء كان التضادّ بالذات أو بالعرض، لأنّ الطلب هو الإنشاء بداعي جعل الدّاعي، ومع وجود التضادّ بين الشيئين كيف يتحقّق الداعي بجعل الداعي ؟
وفيما نحن فيه: كلّ طلب مشروط بالقدرة على متعلّقه ـ على مبنى المشهور أو الميرزا ـ وإذ لا قدرة على الضدّين فطلبهما محال.
يقول: « ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرض واحد آت في طلبهما كذلك، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما. إلاّ أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما، بداهة فعليّة الأمر بالأهم في هذه المرتبة وعدم سقوطه بعدُ بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو العزم عليها مع فعليّة الأمر بغيره أيضاً، لتحقّق ما هو شرط فعليّته فرضاً ».
يعني: إنّه في صورة التضادّ بالذات، يطارد كلٌّ من الضدّين الآخر، وفي صورة التضادّ بالعرض ـ وهو صورة الإشتراط ـ تكون المطاردة من طرف واحد، لأنّ الأمر بالأهم مطلقٌ، أي إنّه لا بشرط بالنسبة إلى المهم، وهذا الأمر مقدَّم على متعلّقه ـ تقدّم العلّة على المعلول ـ فهو مقدّم على عصيانه، لأنّ الإطاعة والعصيان في مرتبة واحدة، فكان الأمر بالأهمّ مقدّماً على إطاعة الأهم وعصيانه، لكن العصيان شرط للأمر بالمهمّ، وكلّ شرط متقدّم على المشروط، فيكون الأمر بالأهمّ وعصيانه مقدّماً على الأمر بالمهمّ بمرتبتين، وعليه، فلا يمكن للأمر بالمهمّ أن يطارد الأمر بالأهم، فيكون الأمر بالأهم موجوداً بلا مانع.
وهو أيضاً موجود في مرتبة إطاعة الأمر بالأهم وعصيانه، لعدم الاقتضاء للأمر بالمهم في هذه المرتبة حتى يطارد الأمر بالأهم، لأنّ المفروض أنّ الأمر بالمهمّ ينشأ بعد مرتبة عصيان الأمر بالأهم.
فإن عصي الأمر بالأهم، يصير الأمر بالمهم فعليّاً، لتحقّق شرطه، لكنّ المفروض أنّ الأمر بالأهم مطلق، فهو بإطلاقه يشمل هذه المرتبة، فله اقتضاء الامتثال، والمهمُّ له اقتضاء الامتثال، فتقع المطاردة في هذه المرتبة.
(1) كفاية الأُصول: 134.