8 ـ قاعدة لا ضرر

8 ـ قاعدة لا ضرر
وأمّا الاستدلال للمقام بأدلّة نفي الضّرر، من جهة أنّ عدم الضمان ضرر، فيثبت الضّمان في المنافع والأعمال مع فاسد العقد. فلا ريب في ثبوت قاعدة نفي الضرر، وأدلّتها متواترة أو مستفيضة(1)، وفي لفظ: أنه صلّى اللّه عليه وآله قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(2).
ولكنّ الاستدلال بهاهنا في غير محلّه، وتوضيح ذلك هو:
إن «لا» نافية للجنس، فطبيعي الضرر منفيّ تشريعاً، أمّا على القول بأن المعنى: كلّ موضوع ضرري فلا حكم له في الشريعة، لأنّ نفي الموضوع تشريعاً عبارة عن عدم حكمه، فهو نفي للحكم بلسان نفي موضوعه، ونظيره في الكتاب والسنّة كثير، ومنه قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ)(3)، فلا ربط للقاعدة بما نحن فيه أصلاً.
وأمّا على القول بأن المعنى: كلّ حكم ينشأ منه الضرر فهو منفي في الشرع ـ كما هو مختار الشيخ ـ أي: لا حكم ضرري في الإسلام، فليس في محلّ البحث هنا حكم ينشأ منه الضرر حتى يتمسّك بالقاعدة لنفيه.
إلاّ أن يقال:
إنّ ما ورد في لسان الشارع من: لا يجب كذا أو لا يحرم كذا أو لا يحلّ كذا، ونحو ذلك، ليس إخباراً عن عدم الحكم، لأنّ الأحكام كلّها عدم في الأزل، بل هو إنشاءٌ لعدم الحكم والتعبّد به، ولذا يجري استصحاب العدم الأزلي ويتعبّد به، وعلى هذا، فحكم الشارع بعدم الضمان في الأعمال والمنافع المستوفاة بالعقد الفاسد، حكمٌ ينشأ منه الضّرر، فهو منفيٌّ بأدلّة نفي الضرر، وإذا ارتفع العدم ثبت نقيضه، فالضمان ثابت.
هذا غاية ما يمكن أن يقرَّب به الإستدلال بقاعدة «لا ضرر».
وخلاصته: إن معنى القاعدة: كلّ حكم ينشأ منه الضرر فهو منفي، وإن عدم الحكم ممّا يمكن التعبّد به، ونفيه جعلٌ لعدمه، وتكون النتيجة ثبوت الحكم بالضّمان.
وفيه: إنه لا كلام في أنّ عدم الحكم ممّا يمكن التعبّد به، ولكنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، إذ المفروض عدم إنشاء الحكم بعدم الضّمان، والقول بأن عدم الحكم من دون إنشائه مجعول، فاسد جدّاً.
هذا أوّلاً.
وثانياً: ظاهر الرواية: أن المنفيّ هو الحكم الضرري، لا عدم الحكم الذي ينشأ منه الضرر.
فالقول بعدم حكم الشارع فيما نحن ضرري، فيكون مجرى قاعدة لا ضرر، لا يمكن المساعدة عليه بوجه.
فإنْ قلت: إنّ الانتفاع بدار الغير أو دابّته ـ مثلاً ـ بلا دفع للبدل «ضرار»، وهو منفيٌّ بالحديث الشريف، فيجب التدارك.
قلت: إنّ مفاد الحديث نفي الضرار، لا نفي الضرار غير المتدارك، وتدارك الشيء غير عدم الشيء.
وتلخص:
عدم الدليل على الضمان في الأعمال والمنافع المستوفاة بالعقد الفاسد، فقاعدة: ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده… منتقضة.
وأمّا بناءً على ما ذكرنا من أنّ دليل القاعدة هو: قاعدة السّلطنة، بالبيان المتقدّم، فغاية ما يمكن أن يقال في الأعمال والمنافع هو: إنّ تسليمه الدار للانتفاع بها، مبنيٌّ على أنّ المنفعة المستوفاة ليست مجانيّةً، فمقتضى هذا الشرط الضمني ـ بعد عدم وجوب دفع العوض المسمّى، لفساد العقد ـ وجوب دفع البدل، فيختصّ الاستدلال بصورة استيفاء المنفعة أو العمل، وأمّا حيث لم يتحقق الاستيفاء، فلا دلالة للقاعدة على الضمان[1].
[1] وتلخّص: أنّ الدليل على ضمان المأخوذ بالعقد الفاسد هو الإجماع وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ومدركها حديث السّلطنة، والسيّد الجدّ لم يناقش في سنده في البحوث السّابقة.
وذهب السيّد الخوئي رحمه اللّه إلى أنّ ثبوت الضمان إنما هو بالإقدام المنضم إلى الاستيلاء من جهة السيرة العقلائية غير المردوعة عن المعصوم، فالإقدام بوحده ليس علّةً تامّة للضمان لكي يدور الضّمان مداره وجوداً وعدماً، وإنما هو متمّم لسبب الضمان الذي هو الاستيلاء على مال الغير بلا تسليط من المالك مجّاناً، وقد قامت السّيرة القطعيّة العقلائية الممضاة للشارع على أنّ التسلّط على مال الغير تسلّطاً غير مجّاني موجب للضّمان، وحيث أنّ الشارع لم يمض الضّمان بالمسمّى لفساد العقد، فثبت الضمان بالمثل أو القيمة(4).
ولكنْ قد عرفت ممّا تقدّم أنّ ثبوت قاعدة الإقدام أوّل الكلام ـ وهو كاف في سقوط المبنى كما لا يخفى ـ ، وعلى فرض التنزّل، فثبوت السّيرة العقلائيّة على ضمان البدل في التسليط بالمسمّى وتلف المال بيد المشتري بلا تفريط، أوّل الكلام كذلك.

(1) أنظر 25 / 427، الباب 12 من أبواب إحياء الموات.
(2) وسائل الشيعة 26 / 14، الباب 1 من أبواب موانع الإرث.
(3) سورة البقرة: 197.
(4) مصباح الفقاهة 3 / 96 ـ 97.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *