نقد الأقوال الاخرى

نقد الأقوال الاخرى
ذكرنا الوجوه والأقوال في المسألة، وهي في الأغلب مستندة إلى عدم وجود العمومات والإطلاقات القابلة للاستدلال في المقام، فلا مناص من الأخذ بمقتضى الإطلاق المقامي، بتقريب: أن كلّ عقد متداول في عصر الشارع لم يردع عنه فهو نافذ عنده وأنه معتبر له على حسب ما اعتبره العقلاء، إذن، لابدّ من الأخذ بتلك العقود وجعلها القدر المتيقّن من الألفاظ المؤثرة، وأمّا الآيات من قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ونحوه، فهي واردة في مقام التشريع لا لبيان الحكم الفعلي، ولا عموم لها ليتمسّك به ويرجع إليه.
أو من جهة أن اللاّم في (الْعُقُودِ) للعهد، أي: العقود المتداولة والمتعارفة بين الناس… فليست الآية دالّة على العموم.
أو من جهة أنّ التمسّك بالإطلاق والعموم في الآيات منوطٌ بعدم وجود العلم الإجمالي بالمخصّصات والمقيّدات الكثيرة، وإلاّ يلزم الإجمال في الآيات ولا يبقى لها ظهور يتمسّك به.
أو من جهة أنّ تلك العمومات والإطلاقات مبتلاة بالتخصيص الأكثر، على ما تقدّم.
وبالجملة، فإنّ مناط الأقوال إنكار العموم والإطلاق في الأدلّة، وينحصر الدليل بالإمضاء، وعليه، فلا يجوز التعدّي عن اللّفظ المتداول الممضى شرعاً إلى غيره.
ولنا في جميع ما ذكر بحث.
أمّا دعوى أنّ الآيات في مقام التشريع، فقد قرّرنا في الاصول أن ظاهر حال كلّ متكلّم كونه في مقام بيان الحكم الفعلي، ومع الشك فإنّ ذلك مقتضى أصالة البيان، وعليه، فمقتضى القاعدة حمل الكلام على إرادة الحكم الفعلي، إلاّ أن يقوم دليل على كونه في مقام التشريع، وعدم الدليل كاف للحمل على الحكم الفعلي، ومجرّد احتماله لا أثر له.
وأمّا احتمال كون «اللام» للعهد، فخلاف ظاهر الكلام كذلك، لأنّ «البيع» كلّي طبيعي، وإذا دخلت اللاّم على الكلّي الطبيعي أفادت أنه بما هو ماهيّة كليّة مرادٌ للمتكلّم، وحينئذ، فحمل اللاّم على العهد يحتاج إلى قرينة، وعدمها كاف للحمل على العموم… .
وكذا الكلام في «العقود».
فالاحتمالان مندفعان بعدم الدليل، والظهور في الاطلاق والعموم محكّم.
وأمّا فرضية العلم الإجمالي بالتخصيص، كالبيع الغرري والربوي وما لا يقدر على تسليمه و… فنقول: إنه من العلم الإجمالي المردّد بين الأقل والأكثر المنفصل، ومقتضى القاعدة المقرّرة فيه هو الأخذ بالقدر المتيقّن وهو الأقل والتمسّك في الزائد عنه بالعام والمطلق، فلا شك بعد ذلك في انحلاله، والذي يسري إجماله إلى العام أو المطلق هو غير المنحلّ.
وأمّا التخصيص بالأكثر، فهو موهن لا محالة، سواء كان العام مستعملاً في الخاص مجازاً كما عليه القدماء أو في العموم والإرادة الجديّة متعلّقة بما عدا المخصص كما عليه المتأخرون، فالكبرى مسلَّمة وتخصيص الأكثر مستهجن على كلّ تقدير، ولكنّ الكلام في الصغرى.
لقد قررنا في الاصول أن تخصيص الأكثر إنما يضرّ بالظهور بناءً على مسلك القدماء، وأمّا بناءً على ما هو الحق ـ من أن المطلقات مستعملة في المعاني الحقيقيّة لها وهي الماهيات المطلقة، والخصوصيات القيدية تفاد بالدّوال الثانوية، فهناك دالاّن ومدلولان ـ فسواء كان المقيد متّصلاً أو منفصلاً، فإن المطلق قد استعمل في نفس الطبيعة الكليّة، ولا مجازيّة أصلاً، وعليه، فإنّ المقيّدات الكثيرة لا تضرّ بانعقاد الظهور أبداً، لأنّ للمتكلّم أن يفيد مرامه إلى وقت الحاجة بدوالّ متعدّدة، وفاقاً للشيخ الأعظم الذي قرّر هذا المطلب بأحسن تقرير، وخلافاً للمحقّق الخراساني القائل بانحصار مقام البيان بحال التكلّم، فقد ذكرنا في محلّه أن لا وجه لِما ذهب إليه.
وبعبارة اخرى: فإن كون المتكلّم في مقام البيان ـ الذي هو من مقدّمات الإطلاق ـ مستمرٌّ إلى وقت الحاجة، وله أن يبيّن مقصده ومرامه ببيانات ودوالٍّ متعدّدة.
فظهر أنّ التقييدات الكثيرة لا تضرّ بظهور الكلام وإفادته للمرام على ما هو التحقيق عند المتأخرين، فإنّ ظهوره محكمٌ ويرجع إليه فيما عدا ما خرج بالدليل تقييداً من تحت المطلق، والمفروض عدم قيام الدليل على المنع من البيع بالكناية أو المجاز… .
هذا كلّه في المطلقات.
إنما الإشكال في العمومات، فإن المفروض كون المستعمل فيه عامّاً، فيضرّ تخصيص الاكثر بالعموم لا محالة، لأن (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يقتضي وجوب الوفاء على كلّ متعاملين في كلّ عقد من العقود، لكنّ هناك عقوداً لا يجب عليهما أو على أحدهما الوفاء فيها، كالهبة بغير ذي رحم، وغير المعوّضة وكذا في الوكالة، وفي القرض لا يجب الوفاء على المقترض وفي الرهن كذلك… فالآية مخصّصة بمخصصات كثيرة، لا سيّما بالنظر إلى أفراد العقود الواقعة في الخارج، إذ ما لا يجب الوفاء فيه أكثر ممّا يجب.
وبعبارة اخرى: ليس المراد من قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عناوين العقود، بل المراد الأفراد الخارجية، فهو عام أفرادي، مثل أكرم العلماء، الذي يعمّ جميع الأفراد، وليس المقصود منه علماء الفقه وعلماء النحو وعلماء الطب وغيرها من العمومات الأنواعية والأصنافية، لأنّ ملاك وجوب الإكرام هو حيثيّة الاتّصاف بالعلم، أيّ فرد كان وبأيّ عنوان من العناوين، فكذلك «العقود» في الآية، حيث أن وجوب الوفاء مترتب على حيثيّة العقد بلا نظر لنوعه، من كونه بيعاً أو إجارة أو نكاحاً… وهكذا… .
وبالجملة، فلا ريب في أكثرية ما هو خارج ممّا هو باق تحت العموم.
والتحقيق في الجواب:
إن العام وإنْ كان أفرادياً والملاك قائم بحيثيّة «العلم» في مثل: أكرم العلماء، ولكن إن جاء المخصّص مخرجاً لعنوان من العناوين، فإن الخارج يكون هو العنوان، فلو قال: أكرم العلماء ثم قال: لا تكرم الصرفيين، خرج هذا العنوان وإنْ كانت أفراده أكثر من العلماء في سائر العناوين بأضعاف مضاعفة، وهذا ليس من تخصيص الأكثر المضرّ بظهور العام.
وفيما نحن فيه الأمر كذلك، فإن الخارج من تحت (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)عناوين قليلة بالنسبة إلى ما يبقى تحته منها، وإنْ كانت أفراد العناوين الخارجة كثيرةً جدّاً، فمثل هذه التخصيصات لا تضرّ بعموم الآية المباركة والتمسّك به.
فتلخص: إنّ لنا التمسّك بإطلاق (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) وبعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)مضافاً إلى أنّ لهذه الآية جهة الاطلاق أيضاً، لما ذكرنا في الاصول من أن في العام حيثيّة الإطلاق إلى جنب حيثية العموم، فأداة العموم تفيد العموم بالنسبة إلى الخصوصيّات الأفرادية، وبإطلاقها تفيد الشمول بالنسبة إلى أحوال الأفراد، فقوله: «أكرم كلّ عالم» يدلّ على وجوب إكرام جميع أفراد العالم على جميع أحوالهم.
ونتيجة البحث بعد اندفاع الشبهات هو تحكيم العموم والاطلاق في الآيات، فإنّ اللّفظ ـ في الكناية ـ وإنْ كان مستعملاً في المعنى الحقيقي له، ولكنّ المنشأ المقصود بالأصالة هو البيع، إذ البيع ـ وهو أمر اعتباري قائم بالنفس ـ يتجلّى باللّفظ الكنائي، وهو كاف.
كما أنّا لو قلنا في موارد المجازات: بأنّ اللّفظ غير مستعمل في المعنى المجازي، بل اللّفظ والقرينة معاً يدلاّن على المعنى المقصود، كأن يقال في «رأيت أسداً يرمي» بأن «الأسد» و«يرمي» معاً يدلاّن على الرجل الشجاع، أمكن القول بعدم إنشاء المعنى باللّفظ، وأن القرينة لها دخلٌ في الدلالة عليه، وعليه، فلو كانت القرينة حاليّة لما تمّت الدلالة، فيشترط أنْ تكون لفظيّةً، وهذا ما ذهب إليه الشيخ في المقام.
لكنّا لا نقول بمدخلية القرينة في الدلالة على المعنى، بل اللّفظ مستعمل واقعاً في الرجل الشجاع، والقرينة «يرمي» قد صَرَفت اللّفظ عن المعنى الحقيقي الموضوع له وهو الحيوان المفترس، وبذلك ينعقد الظهور للّفظ في المعنى المجازي، سواء كانت القرينة حاليّة أو مجازيّة.
وعلى الجملة، فقد أوضحنا دليل القائلين بالاكتفاء بالقدر المتيقن، أو باعتبار اللّفظ الصريح، أو أنّ المعتبر فقط ما كان متداولاً في عصر المعصوم ووقع موقع الإمضاء، وهو عدم وجود العمومات والإطلاقات، وأثبتنا بعد ذلك العموم أو الاطلاق في الآيات، وتعرّضنا لمختار الشيخ قدّس سره ودليله وبيّنا ما فيه.
وأمّا القول بعدم جواز إنشاء العقد بالكناية، لأنّ الملزوم المقصود ـ وهو البيع مثلاً ـ غير منشأ، فلا يكون للكناية آليّة تحقّق البيع، فقد تقدّم الجواب عنه مفصّلاً.
وأمّا التفصيل بين المجاز القريب والبعيد ـ والمراد من القريب والبعيد، تارةً: العلقة، لأنّها قد تكون قريبةً من المعنى الحقيقي وقد تكون بعيدة عنه. واخرى: الاحتياج إلى القرينة، فالقريب ما يحتاج إلى القرينة الواحدة والبعيد ما يحتاج إلى قرائن، وثالثة: الشهرة وغيرها، فالمجاز للقريب هو المشهور والبعيد هو غير المشهور ـ فالظاهر أنه يبتني على أنّ المجاز البعيد ليس له ظهور عقلائي، وإلاّ، فالملاك هو الظهور الحجة، ومع قيامها لا يفرّق بين العلقة القريبة والبعيدة، ولا بين المجاز المشهور وغير المشهور، ولا بين ما يحتاج إلى القرينة الواحدة وما يحتاج إلى القرائن.
نعم، لابدّ من الظهور المعتدّ به عند العقلاء، بحيث يحتجّون به لدى الخصومة، وقد ذكرنا ذلك في بيان المختار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *