كلام المحققين الخراساني و الإصفهاني

قال المحقق الخراساني: «هذا إذا قلنا بأنها أحكام واقعية مطلقاً ولو في حقّ من رأى خلافها، ولو قلنا باختصاص ذلك بمن رأى بواقعيّتها كما هو الأظهر، فلا يتفاوت كونها أحكاماً واقعيةً أو عذرية فيما هو المهم في المقام، وإنما التفاوت بينهما في مقام آخر عند كشف الخلاف»(1).
والحاصل: إنه لو كان حكماً واقعياً ثانويّاً فلا أثر له كذلك، فلو حصل ذلك للموجب كان حكماً شرعيّاً، ولا ربط لذلك الحكم بالقابل، فلا فرق بين القولين في النتيجة فيما نحن فيه.
وما أفاده متينٌ جدّاً، فإنّ من قامت لديه الأمارة تكون الأمارة سبباً لقيام المصلحة في المؤدّى، وهو مكلّف بذلك الحكم ولا ربط له بغيره.
ولكنْ ليس كلامه على كليّته بحسب ما أفاده شيخنا الاستاذ حيث قال:
«وتحقيق المقام: أنّ الملكية إذا كانت من الأمور الواقعية والموضوعات الخارجية، فإنْ كانت الامارة حجّة من باب الطريقية المحضة فهي لا توجب إلاّ العذر عند الخطأ، فالتصرف بالعقد الفارسي تصرف في مال الغير; وهو حرام، غاية الأمر أنّه معذور في هذا التصرف الحرام واقعاً، وإنْ كانت حجّة من باب الموضوعية، فالتصرف وإنْ كان في مال الغير حقيقة; لكنّه جائز حقيقة، لكون التصرّف بعنوان أنّه تصرّف في مال الغير بسبب العقد عليه ذو مصلحة غالبة على مفسدة التصرف في مال الغير; فلا يكون حراماً واقعاً، وحيث أنّ الملكية حينئذ واقعية ولها سبب واقعي لا جعلي، فالتعبّة بالملكية عند العقد الفارسي تعبّد بآثارها، وحينئذ يمكن الاطلاق والتقييد من حيث الآثار.
فبناءً على الاطلاق يجوز للمعتقد جميع التصرفات المترتبة على الملك، ولا يجوز لغيره التصرف فيه بدون رضاه، وإنْ لم يعتقد سببية ما يراه المعتقد سبباً.
وبناءً على التقييد يجوز للمعتقد التصرف فيه فقط من دون حرمة التصرف بدون رضاه لمن لا يعتقد سببيته.
وأمّا إذا كانت الملكية من الاعتبارات ـ كما قدمنا(2) بيانه وشيدنا بنيانه ـ فأسبابها أيضاً جعلية، فربّما يكون ذات العقد العربي ـ بما هو ـ ذا مصلحة مقتضية لاعتبار الملكية من الشارع، وربّما يكون العقد الفارسي ـ لا بما هو; بل بما هو عقد قامت الحجّة على سببيته شرعاً ـ ذا مصلحة مقتضية لاعتبار الملكية شرعاً، فما انتقل إلى المعتقد بالعقد الفارسي ملك شرعاً حقيقة; حيث لا واقع للاعتبار إلاّ نفسه، فيترتب جميع آثار الملك عليه بعد تحقّق سببه في حقّ المعتقد وغيره، وإنْ كانت لا سببية للعقد الفارسي بالاضافة إلى غير المعتقد، وعليه فليس له كشف الخلاف، بل لا يجوز التسبب به بعد تبديل الرأى، وإلاّ فالاعتبار لا ينقلب عما هو عليه.
وهذا بخلاف ما عدا الأمور الوضعية كالواجبات التكليفية على الموضوعية، فإنّ مجرد كون صلاة الجمعة التي أخبر بوجوبها العادل ـ بلحاظ العنوان الطاريء ذا مصلحة، كما يقتضيه ظهور الأمر بها في البعث الحقيقي المنبعث عن مصلحة في متعلقه ولو عرضاً ـ لا يقتضي أنْ تكون المصلحة فيه مصلحة بدليّةً عن مصلحة الواقع، فبعد كشف الخلاف يتبيّن بقاء مصلحة الواقع على حاله فيجب تحصيلها، وليس في باب المعاملات مصلحة لازمة التحصيل كي يجري فيها هذا البيان، وتمام الكلام في محلّه»(3).
وملخّصه:
إن الأحكام التكليفية مبتنية على الملاكات، وهي بحسب الأشخاص مختلفة، فبناءً على أنّ الأمارة سبب موجب لحدوث المصلحة، فإنه يحدث الحكم التابع لها لمن قامت عنده الأمارة، من الوجوب والحرمة والصحة والفساد في الامور العبادية وجواز التصرّف وعدمه… إلى غير ذلك. أمّا الأحكام الوضعية، فهي اعتبارات، فلو اعتبرت الملكية في مورد بسبب قيام الأمارة، فليس هناك واقع في ماوراء الاعتبار، بخلاف الأحكام التكليفيّة فلها واقع ومقام ظاهر.
وعليه، فإذا قامت الأمارة على حكم وضعي، فبناءً على الموضوعيّة والسببيّة يحدث الملاك للاعتبار الشرعي، وحينئذ يعتبر الملكيّة، ولا معنى لانكشاف الخلاف، نعم، لو حصل التبدّل في الرأي ينتهي أمد الاعتبار، فللقائل بالموضوعيّة أن يقول بأنّ لكلٍّ من المتبايعين أنْ يرتّب الأثر على الأمارة القائمة عنده.
فإشكال المحقق الخراساني على الشيخ بالنسبة إلى الأحكام التكليفيّة وارد، دون الأحكام الوضعيّة، إذ لا واقعية لها إلاّ موطن الاعتبار، فإذا تحقق الملاك للحكم مثلاً ثبت الحكم وترتب عليه الأثر.
وعلى الجملة، فقد أفاد الشيخ أنّ الأحكام الظاهرية إن كانت واقعيةً ثانويّة كالأحكام الاضطرارية، فاختلافهما غير مضر، وإن كانت عذريّة والواقع محفوظ على ما هو عليه، كان اختلافهما موجباً للبطلان.
لكنْ قد ظهر ممّا ذكرنا: أن الصحيح عدم البطلان على القول الثاني في الأحكام الوضعيّة، فلو كان البائع يرى صحة العقد بالفارسيّة ـ مثلاً ـ وأنه موجب للملكيّة والقابل لا يراه وإنما أنشأ رجاءً، فللبائع التصرف في الثمن وليس للمشتري التصرف في المثمن، فالعقد يؤثر أثره لمن قام عنده الأمارة أو الأصل المقتضي لذلك الحكم الظاهري.
وحينئذ نقول:
إن من الأحكام الشرعيّة ما يجب ترتيب الأثر عليه حتى من غير القائل به، مثلاً: لو اشترى شيئاً بالعقد الفارسي، لم يكن لغيره القائل ببطلان العقد بالفارسيّة أنْ يشتري الشيء من البائع الأوّل، ولو تزوّج امرأةً بعقد يراه صحيحاً، لم يجز للغير القائل ببطلان ذلك العقد أنْ يتزوّجها… .
هذا ما عليه الأصحاب، واستفادوا ذلك من الأخبار في أن كلّ ذي دين يجري عليه حكم دينه(4) قالوا: المراد من «الدين» فيها هو «المعتقد»، فمن المسلّمات أن المرأة الكتابيّة إذ أسلم زوجها فهي باقية على زوجيّتها، فلا يجوز للمسلم أن يتزوّجها، بل إنّ مقتضى: ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم(5): أنّ عليهم ترتيب الأثر وإنْ كان بضررهم، مثلاً: لمّا كان العامّة قائلين بالتعصيب، جاز للإمامي إذا كان من عَصَبة الميت الأخذ من الإرث، وإنْ لم يكن له ذلك على دين الإمامية إنْ كان الميّت إماميّاً.
وبعد هذه المقدمة نقول:
ذكر الشيخ في المقام ثلاثة وجوه، وجعل الأول والثاني مبنيّين على المسألة الاصوليّة في مباحث الأحكام الظاهرية، والأولى أن يقال:
تارةً: كلّ من المتعاملين المختلفين يستند إلى أمارة، واخرى: يستند أحدهما إلى أمارة والآخر لا يرى حجيّة تلك الأمارة بل يأخذ بمقتضى الأصل.
والاختلاف في أنّ الأحكام الظاهرية أحكام حقيقيّة أو عذرية، يبتني على أن «صدّق العادل» ظاهرٌ في وجوب العمل بقوله وترتيب الأثر عليه، وكلّ حكم شرعي يكشف إنّاً عن الملاك وهو موجود في نفس المؤدّى، ومن جهة اُخرى: ليس لنا أن نقول بأنّ المصلحة في المؤدّى تعارض المصلحة الواقعية وتتقدّم عليها، فإنه تصويبٌ باطل، فلا مناص للقائل بالسببيّة من الالتزام بالترتّب بأن يقول: بأن الأحكام الواقعية مجعولة تبعاً لمصالحها، ثمّ إنّ الأمارة القائمة للجاهل بذلك الحكم الواقعي، توجب مصلحةً يستتبع حكماً ظاهرياً له يجب عليه العمل به مادام جاهلاً بالحكم الواقعي، فالواقع محفوظ وليس ما قامت عليه الأمارة بدلاً عنه، وإنما هو حكم ظاهري يطبّقه من قامت عنده في ظرف الجهل، إلى أنْ ينكشف له الواقع أو يتبدّل رأيه.
أو أن «صدّق العادل» ليس ظاهراً في وجوب ترتيب الأثر، بل هو حكم من المولى بداعي التنجيز للواقعيّات، فإنْ كان العمل بالأمارة مطابقاً للواقع فهو، وإنْ كان خالفه كان مؤدى الأمارة عذراً له.
هذا هو مبنى البحث.
وحينئذ نقول: ظاهر تنظير الشيخ القول الأوّل بإشارة الأخرس، هو أن القائلين يريدون إنه كما أنّ الشارع اعتبر السببيّة لإشارة الأخرس، وبإشارته يتحقق العقد وتحصل الملكية، كذلك جعل الأمارة القائمة سبباً للملكيّة… فإنْ كان هذا مرادهم، فالقول بصحّة العقد متين جدّاً، إذ الأمارة القائمة دلّت على صحّة العقد بالفارسية وحصول الملكية به في اعتبار الشارع، والمفروض أنه ليس للطرف المقابل أمارة على خلافها، فهو ينشأ القبول ويترتّب الأثر.
نعم، لو كان اختلافهما على أثر قيام الأمارة لكلٍّ منهما على خلاف الاخرى، فالأمر مشكل، وقد يستظهر من كلام السيّد أنهما تتساقطان.
وأمّا بناءً على القول الثاني، فإمّا يكون الطرف الآخر معتقداً بالخلاف، فلا يتمشّى منه الإنشاء كما هو واضح، وإمّا يكون فاقداً للدليل على الصحّة بالعقد الفارسي ـ مثلاً ـ ، فإنْ صدر منه الإنشاء جدّاً جاز للطرف القائل بالصحّة التصرّف فيما أخذ، وتصرّف الآخر الشاكُّ في الصحّة فيما أخذ غير جائز.

(1) حاشية المكاسب: 29 ـ 30.
(2) في رسالة الحق والحكم: 30.
(3) حاشية المكاسب 1 / 295 ـ 296.
(4) وسائل الشيعة، الباب 10 من أبواب حدّ المرتد، الرّقم: 13 و 14 و 21 و 48 و 49.
(5) وسائل الشيعة 26 / 320، الباب 3 من أبواب ميراث المجوس، الرّقم: 2.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *