حكم دفع القيمة مع المطالبة

الثامن(1)
أحكام تعذّر المثل في المثلي
قال الشيخ:
لو تعذّر المثل في المثلي، فمقتضى القاعدة وجوب دفع القيمة مع مطالبة المالك، لأن منع المالك ظلم، وإلزام الضامن بالمثل منفي بالتعذّر فوجبت القيمة، جمعاً بين الحقّين، مضافاً إلى قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ…)… .
أقول:
قال جماعة بالانتقال إلى القيمة مطلقاً، وفصّل الشّيخ ـ والحقّ معه ـ بين مطالبة المالك وعدم مطالبته، لأنّ الوجود الخارجي لا دخل له في المثليّة حتّى يقال بخروج الشيء عن المثليّة إذا تعذّر المثل في الخارج.

حكم دفع القيمة مع المطالبة
وقد استدلّ الشيخ على وجوب دفع القيمة مع مطالبة المالك: بأنّه مقتضى الجمع بين الحقّين، وبالآية المباركة.
والتحقيق أن يقال: تارةً: يتعذّر الشيء إلى الأبد، واخرى: يتعذّر في زمان خاصّ دون غيره، وثالثة: يتعذّر في مكان دون غيره. وما في جامع المقاصد(2) من أنّ التعذّر أمر عرفي، فغريب، إذ لم ترد الكلمة في نصٍّ حتى يقال بالرجوع إلى العرف في مفهومها، ورابعة: يتعذّر تحصيل الشيء على الضّامن وإلاّ فهو موجود في الخارج، وعجزه عن تحصيله قد يكون فعلاً وقد يكون إلى الأبد.
فإنْ كان الشيء متعذّراً إلى الأبد، أو كان الضامن عاجزاً عن تحصيله كذلك، فلا حقّ للمالك أنْ يطالب بالمثل، كما لا حق للضّامن أن يستمهله، بل يجب عليه دفع القيمة بمجرّد المطالبة.
وإنْ كان الشيء متعذّراً في زمان أو مكان، فطالب المالك بالقيمة، واستمهل الضّامن حتّى يأتي بالمثل في الزمن اللاّحق أو من بلد آخر، فلا مجال لشيء من الوجوه المذكورة.
إذن، ليس وجوب دفع القيمة على إطلاقه.
أمّا الوجه الأوّل: فالظّلم عبارة عن منع الغير عن حقّه، فلابدّ أوّلاً من إثبات حقّ المطالبة بالقيمة ـ مع تمكّن الضّامن من دفع المثل ـ حتّى يكون منعه ظلماً، لكنّ استحقاق المالك لقيمة التالف أوّل الكلام، لأنّ الضّمان كان بالمثل، وليس له المطالبة بقيمة المثل، لأنه لم يضمن الماليّة في عرض الخصوصيّات، لأنّ الماليّة في طولها، والمفروض هو التمكّن من تسليم المثل بخصوصيّاته، فلا تصل النوبة إلى الماليّة حتى يجوز له المطالبة بالقيمة.
وأمّا الوجه الثاني، وهو الاستدلال بالآية، لما ذكره الشيخ بقوله:
فإنّ الضّامن إذا اُلزم بالقيمة مع تعذّر المثل لم يعتد عليه بأزيد ممّا اعتدى.
ففيه: إن كانت الآية تدلّ على الضّمان، كما تقدّم في الفرع الرابع، كان معناها: أنّ المعتدي ضامن بمثل ما اعتدى، والمفروض عدم تحقق اعتداء آخر يوجب الضمان بالقيمة، فما وجه الاستدلال بها لضمانها؟ وإنْ كان معناها: تجويز التقاصّ، بأنْ يأخذ المعتدى عليه كما أخذ المعتدي، فمن الواضح أن مورد التقاصّ هو صورة الامتناع، والمفروض عدمه من الضّامن غير أنه يستمهل. هذا أوّلاً.
وثانياً: مقتضى الاستدلال المذكور جواز المطالبة بالقيمة مع وجود المثل ـ لأنّه لم يعتد عليه بأزيد ممّا اعتدى ـ ولا يقول به أحد.
فظهر سقوط وجهي الشّيخ رحمه اللّه.
وأضاف السيد(3) دليلين آخرين:
أحدهما: إنّ المثل عبارة عن الواجد للخصوصيّات والماليّة، وكلّ ذلك مستقرُّ في ذمّة الضامن وللمالك المطالبة بذلك كلّه، وحينئذ، يجوز له رفع اليد عن الخُصوصيّات والمطالبة بخصوص الماليّة، لقوله صلّى اللّه عليه وآله: الناس مسلّطون على أموالهم.
والآخر: صبر المالك حتى يحصل المثل ضرري، فلا يجوز إلزامه به.
لكنّ ما ذكره سهو من قلمه، لأنه إذا تلفت العين زالت خصوصيّة الشخصيّة، وأمّا بقية الخصوصيّات الصنفيّة والنوعيّة، فباقية، والماليّة صفة قائمة بالخصوصيّات لا أنّها خصوصيّة في عرضها اشتغلت بها ذمّة الضّامن كذلك، فللمالك المطالبة بالمثل ذي الماليّة لا المطالبة بالماليّة، إذ لا معنى لأنْ يطالب بالصّفة دون الموصوف.
وبعبارة اخرى: لم يكن المتلف ضامناً للقيمة ـ أي الدينار والدرهم ـ إلى جنب المثل، حتى يكون صاحب المال التالف مالكاً لها في ذمّة الضامن، وإنما هي أمر اعتباري متعلّق بالمثل، فهي لم تكن مورداً لسلطنة المالك حتّى يستدلّ بقاعدة السّلطنة.
وأمّا أنّ صبره ضرري، ففيه: إنه ليس الصبر ضرريّاً، ولا أنّ هنا حكماً شرعيّاً ضرريّاً، حتى يرتفع بقاعدة لا ضرر على كلا المسلكين فيها، نعم، عليه أنْ يصبر، لأجل تعذّر المثل، والمفروض عدم استحقاقه للقيمة.
إن قلت: عدم إيجاب الشارع لإعطاء القيمة ضرري، لأنّه يستلزم الصّبر وهو ضرر، فينقلب إلى نقيضه وهو وجوب الإعطاء.
قلت: إنّ القاعدة ناظرة إلى الأحكام وحاكمة على الأدلّة، ولم يكن عدم إيجاب القيمة على الضّامن حكماً مجعولاً حتى يرتفع بالقاعدة، بل إنّه من ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه[1].
هذا كلّه في صورة مطالبة المالك.
[1] ولم يهتم السيّد الجدّ طاب ثراه باستدلال السيد قدّس سرّه بالإجماع، وكأنّه لعدم ثبوت الإجماع وعدم كاشفيّته عن رأي المعصوم أو الدليل المعتبر.
واستدلّ المحقق الخوئي رحمه اللّه لوجوب دفع الضامن القيمة إذا طالب المالك فقال:
«لا ينبغي الريب في أنّ المالك له إلزام الضامن بدفع القيمة، لأنّ الأوصاف النوعيّة من حقوق المالك على الضامن، وله رفع اليد عن حقّه وإسقاطه بقبول غيره بدلاً عنه، كما أن المبيع إذا كان مشتملاً على أوصاف فللمشتري رفع اليد عنها ورضاه بالمبيع الفاقد لها، والسيرة العقلائية تساعد ما ذكرناه، فإنهم يلزمون الضامن بدفع القيمة عند إعواز المثل إذا طالب بها المالك»(4).
وقد اشتمل كلامه على وجهين:
أحدهما، قوله: لأنّ الأوصاف النوعيّة… .
والثاني، قوله: والسيرة العقلائيّة… .
أمّا الأوّل، ففيه: إنه لا ينبغي الريب فيما ذكره كما قال، لكنّ المدّعى جواز إلزام المالك الضامنّ بدفع القيمة، وهذا الوجه غير واف بإثبات المدّعى كما لا يخفى.
وأمّا الثاني، ففيه: إنّ قيام السّيرة العقلائية على ما ذكر في المأخوذ بالبيع الفاسد، غير واضح، نعم، هي قائمة في صورة الغصب، وهي القدر المتيقّن منها مع الشك.
وعلى الجملة، فالوجه الأوّل غير تام، والثاني محلّ إشكال وإنْ ارتضاه بعض مشايخنا دام بقاه.

(1) وهو السادس في كتاب المكاسب.
(2) جامع المقاصد 6 / 245.
(3) حاشية المكاسب 1 / 480.
(4) محاضرات في الفقه الجعفري 2 / 192.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *