بحثٌ مع المحقّق الإيرواني

بحثٌ مع المحقّق الإيرواني
فقال المحقق الإيرواني:
«لا مانع من هذه الأصالة بناءً على جريان البراءة في الأحكام الوضعيّة، كما يظهر من استدلال الإمام بحديث الرفع على فساد طلاق المكره وعتاقه، فينفى بأصالة عدم الوجوب وجوب كلّ خصوصية شك فيها، بمعنى عدم دخلها في تأثير السبب وعدم كونها من أجزاء السبب، ولا يبقى معها مجال الرجوع إلى استصحاب عدم تحقّق النقل والانتقال، لأنّ هذا في مرتبة السبب وذاك في مرتبة المسبب، والاستصحاب إنما يقدّم على أصالة البراءة حيث يكونان في مرتبة واحدة»(1).
وفيه:
إن الشرطيّة غير قابلة للوضع حتى تكون قابلة للرفع، وكلّما لا يقبل الوضع لا يقبل الرفع، فالشرطيّة هذه وهي في مقام السّبب نظير الشرطيّة في مقام المسبّب، فكما أن الثانية من الامور الانتزاعية التكوينيّة المحضة، ولا تقبل الجعل لا بالأصالة ولا بالتبع ـ كما قرّرنا في الاصول، خلافاً للمحقّق الخراساني حيث قال بأن الشرطية في المأمور به مجعولة بالتبع(2) ـ كذلك في الأولى، فالشرطية في مقام السبب ـ وكذا المانعيّة ـ لا تقبل الوضع والجعل مطلقاً. وعليه، فإنّ شرطيّة العجز عن التوكيل لمّا لم تكن قابلة للجعل فهي غير قابلة للرفع. فالقول بعدم الوجوب ـ استناداً إلى العمومات والإطلاقات وأصالة عدم التقييد والتخصيص ـ متين جدّاً.
وبعبارة أخرى: فإنّ العمومات كقوله تعالى (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)(3) ونحوه صادقة على بيع الأخرس بالإشارة، ولو وقع الشكّ في تأثيرها حتى مع التمكن من التوكيل، كان مقتضى النصوص المشار إليها هو التأثير، والأصل عدم تقييدها بصورة العجز عنه.
فإن كان المراد من الأصل في قوله: «الأصل عدم الوجوب» هو الأصل اللّفظي كما ذكرنا، فهو، وإن كان المراد أصالة البراءة عن الشرطية لحديث الرّفع(4)، فهو غير صحيح، لأنّ الشرطية من الامور الانتزاعية التكوينيّة غير القابلة للجعل، فلا تقبل الرفع.
قال الشيخ: الشهرة العظيمة قائمة على اعتبار اللّفظ في حقيقة البيع.
وقد تقدّم الإشكال فيه، لأن أهل العرف يرون المعاطاة بقصد التمليك بيعاً بالحمل الشائع، وأمّا شرعاً، فلا دليل على اعتبار اللّفظ، بل مقتضى الإطلاقات والعمومات ـ كتاباً وسنّةً ـ عدم اعتباره في حقيقة البيع، فما هو بيعٌ عند العقلاء بيع عند الشارع.
نعم، يمكن اعتباره في مرحلة اللّزوم، وأن الفاقد للّفظ لا يكون لازماً على ما تقدّم، وذلك، لأنه لا معنى للّزوم الذاتي لعقد من العقود ولا يصح القول به أبداً إلاّ مجازاً، وإنما يأتي اللّزوم في مقام الجعل من ناحية حجيّة الظهور الفعلي أو المقامي أو الإطلاقي، أو من ناحية التعبد الشّرعي، بأن تفيد الأدلّة أنْ ليس للمتعاملين الرجوع والإقالة. وقولهم: ما لا يقبل الإقالة لا يفسخ، إنما هو حكم من ناحية الشرع لا المتعاقدين… وبالجملة، فإنّه ليس هناك عقد لازم ذاتاً أصلاً، بل هو بالعرض، إمّا من ناحية الظهور أو من ناحية الشرع.
وعلى هذا، فالمعاطاة تفيد الملكية إلاّ أنها غير لازمة.
ثم إنّ الشيخ قد استدلّ لبيع الأخرس بالإشارة، بفحوى ما دلَّ على صحّة طلاقه بها، وهي نصوص(5):
عن أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «طلاق الأخرس أنْ يأخذ مقنعتها ويضعها على رأسها ثم يعتزلها».
وعن السكوني قال: «طلاق الأخرس أنْ يأخذ مقنعتها ويضعها على رأسها ويعتزلها».
وجه الاستدلال: أنه إذا كانت الإشارة تقوم مقام اللّفظ في الإيقاعات، ففي العقود بالأولويّة.
وقد ذكرنا أن ذلك مقتضى العمومات والإطلاقات والتمسّك بأصالة عدم التقييد والتخصيص]1[.
]1[ وربما تمنع الفحوى لوجود الخصوصيّة في بابي النكاح والطّلاق، وهي التوسعة على العباد، لئلاّ يقعوا في الحرام، فلا وجه للأولويّة.
وفيه: إنّ التوسعة من أجل المصلحة المذكورة موجودة في النكاح، ولذا يجري فيه عقد الفضولي، أمّا في الطلاق، فالمجعول فيه بالنظر إلى أحكامه هو الشدّة والتضييق، ومحلّ الاستدلال رواية طلاق الأخرس لا نكاحه، فإذا كان يصحّ منه بالإشارة مطلقاً ففي البيع بالأولويّة.
وربما يقال: إن رواية طلاق الأخرس إنما تفيد صحّته، ومورد بحثنا هو اللّزوم.
ولا يخفى اندفاعه، فإنّ الاستدلال بتلك النصوص هو قبل أصالة اللّزوم.

ثم ذكر الشيخ مقتضى الأصل… .
وتعرّضنا لإشكال بعض الأكابر القائل بأن الأصل عدم الوجوب بمقتضى صحيحة البزنطي قال: «سألته في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال عليه السلام: لا. قال رسول اللّه: وضع عن امّتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا»(6) فقد أجرى الإمام عليه السلام البراءة الشرعيّة في الأمر الوضعي وهو الطلاق، وعليه، فهي جارية في الشرطيّة أيضاً، والأصل هو عدم الوجوب.
فأجبنا عن الإشكال بأن الشرطيّة لا تقبل الوضع فلا تقبل الرفع، وأمّا جريان حديث الرفع في مورد يشك فيه في جعل الشارع حكماً، فذاك أمر آخر، لأن الحكم أمر اعتباري يقبل الجعل من الشارع، ومتى شكّ فيه جرت البراءة عنه.
والوجه في عدم جريان البراءة في الشرطيّة ونحوها من الامور الانتزاعية هو: إن الموجودات… .
إما خارجيّة بالأصالة، وهي الجواهر والأعراض، أو بالتّبع، وهي لوازم الوجود، كما يقال في الموجودات في عالم التشريع بأنّ وجوب ذي المقدمة مجعول بالأصالة ووجوب المقدمة مجعول بالتبع.
وإمّا ذهنيّة، كالجنسيّة والفصليّة وغير ذلك.
وإمّا انتزاعيّة، وهي موجودة في عالم الإعتبار، أمّا في الخارج، فبوجود منشأ الانتزاع، كالابوّة والبنوّة والفوقية والتحتيّة.
وإمّا وضعيّة توجد في عالم النفس بجعل منها، كالملكيّة والزوجيّة والشرطيّة وغيرها، وهي التي ذهب الشيخ إلى كونها منتزعةً، فوقع في التكلّف في بيان المنشأ لبعضها، ونحن موافقون له في بعض الموارد، وهي التي يرى العرف كونها وضعيّة لكنها بالدقّة العقلية انتزاعيّة، دون سائر الموارد… .

(1) حاشية المكاسب: 89 .
(2) كفاية الاصول: 404.
(3) سورة البقرة: 275.
(4) كتاب الخصال للشيخ الصّدوق: 417، باب التسعة، الرّقم: 9، كتاب التوحيد: 353 باب الاستطاعة، الرّقم: 24.
(5) وسائل الشيعة 22 / 47، الباب 19 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.
(6) وسائل الشيعة 23 / 226227، باب جواز الحلف باليمين الكاذبة للتقية، الرّقم: 12.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *