النّظر في أدلّة القول بالمنع

النّظر في أدلّة القول بالمنع
وتحقيق الكلام في مسألة تحقق البيع بالألفاظ الكنائية، وهي معنونة منذ القديم، بالنظر في أدلّة القول بالمنع وقد قال به جماعة كالعلاّمة وبعض المتأخرين، وهي امور:
الأوّل: إن مقتضى أصالة بقاء الملك هو عدم تحقّق البيع فيما إذا لم يصرّح بلفظ البيع.
والثاني: إن المخاطب إذا لم يصرّح بلفظ البيع ـ مثلاً ـ لا يدري بمَ خوطب.
ذكرهما العلاّمة.
وقد قلنا: إنه لا دليل على اعتبار النصوصيّة والصراحة، بل اللاّزم هو الحجّة وهو ظهور الكلام. وأمّا استصحاب بقاء الملك إن كان اللّفظ كنائياً، فهو حيث لا يصدق عنوان البيع عند العقلاء، فإذا صدق عليه العنوان حقيقةً شملته العمومات. وأمّا أن الخاطب لا يدري بم خوطب، فهو حيث تكون الكناية مجملةً، وأمّا مع كونها ظاهرة في المعنى فهو يدري، والبيع تحقّق، لما تقدّم من أن المناط هو ظهور الكلام في المعنى المقصود، ولا يعتبر العلم بالمعنى.
والثالث: ما ذكره المحقق الخراساني من أنّ البيع عهد مؤكّد، ولا يبعد أن يمنع عن تأكّده إذا انشأ بالكناية… .
فهو يذعن بحصول الدلالة، لكنّه ينكر التأكّد، لما ذكره من الوهن في اللّفظ وأنه يسري إلى المعنى، لما بينهما من الاتّحاد.
وتقريبه: إنّ البيع له حيثيّة العهديّة وحيثيّة التأكّد، فكما لا يكفي مجرَّد التعهّد القلبي بل لابدّ من الدلالة عليه، إذ لا يترتب الأثر على القصد القلبي في معاملة من المعاملات، كذلك لابدّ من الدلالة على تأكّده، لما تقدّم من أنّ الدلالة الأصلية للّفظ الكنائي إنما هي في المعنى الموضوع الحقيقي له، وأمّا الملزوم المقصود منه فينتقل ذهن السامع إليه، وتكون دلالة اللفظ عليه تبعيّةً، والدلالة التبعيّة موهونة، وهذا الوهن يسري إلى المعنى فلا يكون الدلالة مؤكّدة، لوضوح منافاة الوهن للتأكّد، فلا يتحقق البيع، لضرورة أنه العهد المؤكّد.
أقول:
بعد غضّ النظر عمّا في كلامه من المسامحة، لأنّ البيع مبادلة مال بمال، نعم هو مصداق للعقد، والعقد عبارة عن العهد المؤكد.
إنما يقال للبيع بأنه عهد، في قبال المقاولة إذ لا عهد فيها، وإنما يقال بأنّه مؤكّد، في قبال العهد الانفرادي مثل الوعد والوعيد، فلا يسمّى بالعقد، بل العقد هو العهد المرتبط بعهد آخر، فيكون بارتباطه مؤكّداً، أي يكون مشدوداً بالآخر ويعضد أحدهما الآخر، ولو فرض عدم صدق «العقد» على «المعاطاة» لكون دلالتها على التأكّد بظاهر الحال والقرائن المقاميّة، فإنّ البيع المعاطاتي يكون موهوناً، وأمّا إذا كان البيع لفظيّاً، فالظهور كلامي، ودلالته على العهد تامّة، وتأكّده حاصل بارتباطه بالعهد الآخر كما تقدّم، فأين الوهن؟
وأمّا التبعيّة الّتي ذكرناها في تقريب كلامه قدّس سرّه، فالجواب عنها هو: إنه في مقام الإنشاء يكون المقصود بالأصالة هو التسبّب إلى البيع، فالمعنى الملزوم هو المراد الجدّي، وأمّا اللاّزم أي المراد الإستعمالي فمقصود بالتبع، والمدار على القصد.
فمقام التسبيب وترتيب الأثر على عكس مقام الدلالة الاستعمالية، إذ المقصود بالأصالة في هذا المقام هو المراد الجدّي ويكون المراد الاستعمالي تبعاً له]1[.
]1[ هذا جواب السيد الجدّ طاب ثراه، ويضاف إليه أنّ ما ذكره من الاتّحاد بين اللّفظ والمعنى كلام خطابي، بل اللّفظ مبرز للمعنى، وحينئذ يلزم أنْ يكون صالحاً لإبراز ما في ضمير المتكلّم، واللّفظ الكنائي يصلح لذلك بل المشهور أن الكناية أبلغ من التصريح، فليس فيه وهنٌ كما ادّعى، على أنه لا برهان على سراية الوهن من اللّفظ إلى المعنى. وهذا ما استفدناه من بحث شيخنا الاستاذ دام بقاه.

4البيع أمر إنشائي، والإنشاء من وجوه الاستعمال، ومن جهة اخرى، فإن اللّفظ الكنائي مستعمل في معناه الموضوع له، ولا يستعمل مع ذلك في البيع، وإلاّ يلزم استعمال اللّفظ في معنيين، فلا يكون البيع منشأً باللّفظ الكنائي.
والجواب:
إن هذه مغالطة، فإنّ الإنشاء المقابل للإخبار من وجوه الاستعمال، لا أن الإنشاء على إطلاقه من وجوهه، ولذا يتحقق إنشاء التمليك بالمعاطاة، مع أنه ليس من وجوه استعمال اللّفظ. هذا أوّلاً.
وثانياً: إن قولهم «زيد كثير الرّماد» ونحوه إخبارٌ بلا إشكال، وهو يتحقّق باللّفظ الكنائي بالضرورة، مع كون الإخبار من وجوه الاستعمال كالإنشاء.
وثالثاً: إن المستفاد من كلمات الفقهاء، أن للملكيّة واقعيةً والعقد آلة لتحقيق ذلك المعنى الواقعي ووجوده، ونظر العرف والشرع طريق لمعرفة ما هو آلة وما هو ليس بآلة، ولذا يقع الاختلاف بين الشرع والعرف، والشارع يحكم بخطأ العرف، وعليه، يجوز أن يقال بأنّ اللّفظ الكنائي ليس آلةً.
أمّا بناءً على الصحيح من أن الملكيّة أمر اعتباري، والاعتبار أمر نفساني قائم بنفس المعتبر، ومع تحققه يصدق عليه عنوان البيع فتعمّه العمومات والإطلاقات، فإنه متى صدق العنوان مع اللّفظ الكنائي فالبيع متحقّق.
والحاصل: إن الأعراض توجد بآلاتها وأسبابها المناسبة لها، فالقلم آلة لتحقق الكم إذا خطّ به، وكذلك الملكيّة والزوجيّة ونحوهما، فإنها تحتاج لوجودها في الخارج إلى الآلات المناسبة، فالمعتبر يعتبر الملكيّة ويتّصف الخارج بذلك بالآلة، أي أنه يتجلّى في الخارج، لا أن الآلة ـ وهو العقد ـ يحقق الملكية ـ مثلاً ـ خارجاً. نعم، لو كانت الملكيّة أمراً واقعيّاً، أمكن البحث عن أن اللّفظ الكنائي يصلح لأنْ يكون سبباً للوصول إلى تلك الحقيقة الواقعيّة أوْلا، لكنّ المبنى غير صحيح.
وعلى الجملة، فإنّ هذا الإشكال إنما يتوجّه على القول بأن الملكيّة أمر واقعي نفس أمري، لا على القول باعتباريّتها، والحق هو الثاني.
ويبقى نسبة القول الأوّل إلى المشهور، لكنّ الشهرة الفتوائية غير كاشفة عن رأي المعصوم ولا عن حجّة شرعيّة، مضافاً إلى احتمال كون فتواهم بذلك من باب الاحتياط أو الأخذ بالقدر المتيقّن.
وأمّا دعوى الإجماع المنقول في المسألة، فالظاهر قيامه على اعتبار اللّفظ في اللّزوم، أمّا اعتبار لفظ مخصوص فلا إجماع عليه أصلاً، ولا ريب في العقد اللّفظي في أن يكون اللّفظ ظاهراً في المراد وكاشفاً عنه، وبذلك يتحقّق الإنشاء وإنْ كان اللّفظ كنائيّاً، إذ المناط ما ذكرناه، وبذلك نجيب عن كلام شيخنا الميرزا قدس سرّه]1[.
]1[ وقد أجاد مقرّر بحثه إذ نقض عليه بقوله بتحقق البيع بالفعل الخارجي كالتسليط على المال بقصد البيع، والفرق بين القول والفعل لا وجه له(1). وأمّا حلاًّ، فيرد عليه أنه قال: «ما لم ينشأ عنوان العقد بما هو آلة لإيجاده عرفاً فلا أثر له» فأرجع الأمر إلى العرف، وأهل العرف يرون صلاحيّة الكناية لتحقّق العنوان المعاملي، وإنكار ذلك بلا وجه.

(1) منية الطالب 1 / 106 و 107.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *