النظر في أدلّة اعتبار

النظر في أدلّة اعتبار العربية
فنقول:
إنه لولم تكن عندنا عمومات، فلا مناص من لحاظ كلّ ما يحتمل دخله في صحّة العقد، فلو وقع العقد فاقداً لشيء من ذلك، كان استصحاب عدم صحة العقد وعدم تحقق النقل والانتقال هو المحكّم. وأمّا مع وجود العمومات، فكلّ ما صدق عليه عنوان «العقد» أو «البيع» يكون صحيحاً، وإنْ كان فاقداً لما يحتمل دخله فيها، ويترتّب عليه الآثار.
وأمّا التأسي، فلا يخفى ما في الاستدلال به، فإنّ العقود وإنْ كانت في زمنهم بالعربيّة إلاّ أنه لم يرد عنهم الأمر بذلك. نعم، لو أنّ الامام عليه السلام أجرى العقد باللّفظ العربي مع الشخص الفارسي الجاهل بالعربيّة، أمكن الاستدلال به من باب التأسي، لأن المعصوم كان قادراً على إجراء الصّيغة بالفارسيّة ولم يفعل، ولكنْ لا دليل على وقوع مثل ذلك.
بل يمكن دعوى القطع بعدم اشتراط العربيّة، إذْ مع شدّة الحاجة وكثرة الابتلاء بذلك، لم يرد عنهم عليهم السلام به أمر، كما ورد في الصّلاة أنْ «صلّوا كما رأيتموني اُصلّي»(1) بل كان اللاّزم أنْ يأمروا بتعلّم الصّيغة بالعربي، كما أمروا بتعلّم القراءة في الصلاة مثلاً… ولا يوجد دليل على شيء من ذلك أصلاً.
وأمّا دعوى الأولويّة، فغريبة جدّاً، فإنّ العربيّة مرتبطة بعالم اللّفظ، والماضويّة متعلّقة بعالم المعنى، فلو أجرى الصيغة بأيّة لغة اعتبر أن تكون بالماضي، فكيف يدّعي الأولويّة والحال هذه؟
وأمّا منع صدق العقد غير العربي مع التمكّن من العربي، فغريب جدّاً كذلك، فإنّ صدق الكلّي على مصاديقه أمر واقعي يدور أمره بين الوجود والعدم، ولا يناط بالقدرة وعدمها، نعم، لو أنه قال: لا يجوز العقد بغير العربي مع التمكّن من العربي، كان التعبير صحيحاً.
وعلى الجملة، فإنّ مقتضى العمومات والإطلاقات صحّة العقد بأيّ لسان يصدق فيه عنوان العقد.
نعم، الظاهر عدم صحة النكاح والطلاق بغير العربي مع التمكن منه، للإجماع. قال الشيخ ـ في النكاح ـ : «إنْ عقدا بالفارسية، فإنْ كان مع القدرة على العربية، فلا ينعقد بلا خلاف، وإنْ كان مع العجز فعلى وجهين، أحدهما: يصح وهو الأقوى، والثاني: لا يصح»(2).
وفي التذكرة(3): لا ينعقد النكاح إلاّ بلفظ العربية مع القدرة، فلو تلفّظ بالفارسية… عند علمائنا.. وأما إذا لم يحسن العربية فإنْ أمكنه التعلّم وجب… .
والحاصل: إنّ المناط صدق عنوان «البيع» و«العقد» و«التجارة»، فإذا تمّ انطبقت الكبريات الواردة في الكتاب والسنة، من (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و(أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) وغيرها، وتبقى دعوى انصرافها إلى العربي، إذ المخاطب بها هم العرب، فكان المنصرف إلى أذهانهم أنْ تكون العقود بالعربية. قال في الجواهر:
«وأمّا اعتبار العربيّة للقادر عليها ولو بالتعلّم بلا مشقة ولا فوت غرض، فهو مقتضى الأصل، ضرورة عدم الدليل على الاكتفاء بغيرها بعد انصراف الآية وغيرها إلى العقد بالألفاظ العربية، كغير المقام ممّا علّق الشارع الحكم فيه على الألفاظ المنصرفة إلى العربيّة، خصوصاً بعد أنْ كان المخاطب والمخاطب عربيّاً وقد اُرسل بلسان قومه…»(4).
لكنها مندفعة، لأنَّ منشأ هذا الانصراف هو الغَلَبة في الوجود، إذ لا ريب في أنّ الغالب على العقود الجارية في تلك الأزمنة هو العربيّة، وقد تقرّر في الاصول أنّ مثل ذلك لا يوجب رفع اليد عن مقتضى العمومات والإطلاقات.
على أنه قد تقدَّم في عبارة الشّيخ(5) اختيار صحة عقد النكاح بغير العربي مع العجز عنه، مع أهميّة النكاح كما هو معلوم، وفي عبارة العلاّمة: «… وإلاّ عقد بغير العربي»(6) بل صاحب الجواهر نفسه(7) يقول: «الظاهر الاجتزاء بها للعاجز عنها حتى بالتعلّم بلا مشقّة، لفحوى الاكتفاء بإشارة الأخرس، مؤيّداً ذلك بعدم العثور فيه على خلاف بين الأصحاب، بل في كشف اللثام…».
فهم يقولون في النكاح بجواز عقده بغير العربي عند العجز منه وإنْ أمكنه التوكيل، ومعقد الإجماع على عدم الصحّة فيه هو صورة التمكن.
على أنّ القول باشتراط العربيّة مطلقاً، يستلزم الفساد الكثير وشيوع الفحشاء والمنكر.
وبالجملة، فإنّ عقد البيع بغير العربي جائز وفاقاً للشيخ، للعمومات والإطلاقات.

(1) مفتاح الكرامة 6 / 556.
(2) المبسوط في فقه الإماميّة 4 / 194.
(3) تذكرة الفقهاء 2 / 582.
(4) جواهر الكلام 22 / 250.
(5) المبسوط 4 / 193.
(6) تذكرة الفقهاء 2 / 582.
(7) جواهر الكلام 22 / 250.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *