الكلام في دلالته

الكلام في دلالة على اليد…
أقول:
أمّا دلالةً، فإن «على اليد» ظرف مستقر، وهو مع متعلّقه خبر مقدّم لـ«ما» الموصولة، فما أخذته اليد ثابت على الذمّة، وليس المراد منها الجارحة، بل المراد هو الاستيلاء.
فقيل: إن المعنى هو: أن على المستولي حفظ ما استولى عليه حتى يؤدّيه إلى صاحبه، فيجب على ذي اليد حفظ ما أخذ حتى يؤديه إلى صاحبه، فمدلول الحديث هو الحكم التكليفي ولا ربط له بالضّمان أصلاً، بل جعلوا كلمة «تؤدي» قرينةً على أن ذلك هو المراد، لأنه ظاهر في وجود الشيء المأخوذ، أمّا «الضمان» أي دفع المثل أو القيمة فإنما يكون على تقدير التلف.
وأجاب الشيخ: بأنّ كلمة «على» إن دخلت على الفعل أفادت الوجوب مثل: عليه الصلاة، عليه الحج وهكذا، وإنْ دخلت على موضوع خارجي، فالمراد هو العهدة مثل: عليه دين. والمراد من ما الموصولة في الحديث هو المال الخارجي، فالمال الخارجي الذي هو ملك الغير إذا استولى عليه الشخص، فهو على عهدته حتى يؤدّيه إنْ كان موجوداً بعينه، وإنْ تلف فالمثل أو القيمة.
إن المراد من «على اليد» أي: على المستولي، فأمّا أنْ يكون المعنى: على المستولي أداء ما أخذ حتى يؤديّ، فهذا غلط، وكذلك جعل المعنى: أنّ على المستولي ضمان ما أخذ، أو حفظ ما أخذ، أمّا الثاني، فيحتاج إلى التقدير، والأصل عدمه، وأمّا الأوّل، فلأن الضمان غرامة الشيء ببدله، فهو أمر تقديري، وظاهر الحديث هو الفعليّة، فعلى اليد ما أخذت، أي بالفعل، فيتعيّن أنْ يكون المعنى: أن ما أخذته اليد ثابت ومستقرّ عليها، أي هو على عهدة ذي اليد المستولي، ولازم ذلك أن يردّه ويؤدّيه مادام موجوداً، ولو تلف فالبدل مثلاً أو قيمةً، فعلى اليد عهدة ما أخذت، ولازم ذلك إرجاع العين أو بدلها، لكنّ الصّلة دائماً محدّدة ومبيّنة للموصول]1[.
]1[ أقول: ظاهره الموافقة مع الشّيخ تبعاً لشيخيه(1)، ولم يتعرّض لكلّ المحتملات الاخرى في الحديث والجواب عنها، وقد أشار المحقّق الإصفهاني إلى ذلك وهذه عباراته:
«ولا يناسب أن يكون المغيّى وجوب الرد. لكون الغاية حينئذ عقلية لا شرعيّة تعبديّة ولو امضاءً… .
ولا يناسب أيضاً: إرادة دفع البدل. إذْ لا يجب دفعه ما دامت الغاية ممكنة، ومع عدم إمكانها لا غاية حتى يغيّى بها، فإمّا لا مغيّ وإمّا لا معنى لأنْ يغيّى.
وكذا إرادة الوضع بمعنى الضمان بالقوّة، وهو كون دركه عليه مع تلفه. إذْ لا ضرر فعلي ولا خسارة فعليّة مع إمكان الأداء… وظاهر الخبر فعليّة كون المأخوذ على اليد، فلا يصح أن يراد أمر على تقدير التلف… .
ربما يتوهّم إرادة الحفظ، لخلوّه عن المحاذير المتقدّمة. إلاّ أنه خلاف الظاهر، من حيث أنّ ظاهر الخبر كون نفس المأخوذ على اليد لا حفظه»(2).
أقول:
فإنْ قلت: إذا كان ظاهر الخبر كون نفس المأخوذ على اليد وأنّ على الآخذ أن يؤدّيها إلى صاحبها، فمن أين تقولون بدلالتها على ضمان البدل مثلاً أو قيمةً في حال تلفها؟
قلت: لا مناص من رفع اليد عن ظاهر الغاية وتوسعة مفادها ليشمل العين والبَدَل بقرينة الارتكاز العقلائي، لأنّهم يرون رفع البدل بمنزلة دفع العين في حال تلفها.

وكلمة «الأخذ» قد تستعمل في الكتاب والسنّة في الاستيلاء على الشيء بالقهر والغلبة، كالآية المباركة: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) و(أَخْذَ عَزيز مُقْتَدِر)ولو أخذنا بكلام الراغب إذ قال: «الأخذ حوز الشيء وتحصيله، وذلك تارةً بالتناول نحو (مَعاذَ اللّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) وتارةً بالقهر نحول قوله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)»(3).
كان الحديث مجملاً، والقدر المتيقّن هو صورة القهر والغلبة، فيكون الحديث ظاهراً في الغصب وأجنبيّاً عن البحث.
وأمّا قول الشيخ:
ومن هنا كان المتّجه صحة الاستدلال به على ضمان الصغير بل المجنون، إذا لم تكن يدهما ضعيفةً لعدم التمييز والشعور.
فغريبٌ، لأنّ العهدة أمر وضعي، وهو يقول بأنّ الأحكام الوضعيّة غير مجعولة وإنما هي منتزعة من الأحكام التكليفية، فما قاله هنا ينافي ما قرّره في الاصول. هذا أوّلاً.
وثانياً: إنه لا تكليف هنا حتى ينتزع منه العهدة على المبنى، أمّا أولاً: فلأنه نفى دلالة الحديث على التكليف. وأمّا ثانياً: فلأنّ الصغير والمجنون غير مكلّفين، إلاّ أنْ يقال: بانتزاعه من التكليف المتوجّه إليهما إذا بلغ الصغير أو عقل المجنون، وهذا أيضاً باطل، لأن الأمر الانتزاعي موجود بوجود منشأ انتزاعه، فكيف يكون المنتزع فعليّاً ومنشؤه يوجد فيما بعد؟ هذا مستحيل.
فما ذكره غير متّجه على مبناه.
نعم، بناءً على القول بأنّ الامور الاعتباريّة جعليّة، أمكن القول بأنّ للشارع أن يجعل العهدة للصغير والمجنون كما يجعلها للمكلّف على حدٍّ سواء.
هذا تمام الكلام في الاستدلال على الضمان بقاعدة اليد.

(1) أنظر: منية الطالب 1 / 117، حاشية الاصفهاني على المكاسب 1 / 301 ـ 302.
(2) حاشية المكاسب 1 / 301.
(3) المفردات في غريب القرآن: 12.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *