الخلاف في ضمان العين المستأجرة

الخلاف في ضمان العين المستأجرة
قال الشيخ:
ثم إنّ مقتضى ذلك عدم ضمان العين المستأجرة فاسداً، لأنّ صحيح الإجارة غير مفيد لضمانها كما صرّح به… إلاّ أنّ صريح الرياض الحكم بالضمان… والأقوى عدم الضمان، فالقاعدة المذكورة غير مخصّصة بالعين المستأجرة ولا متخصّصة.
أقول:
قد وقع الكلام بين الفقهاء في ضمان العين المستأجرة بالعقد الفاسد إذا تلفت إلاّ أنْ يشترط على كلام[1] فيه:
[1] هذه إشارة إلى بحث علميٍّ قيّم في أبواب المعاملات من الإجارة والعارية وأمثالهما ـ بعد أنْ تقرّر أنّ كلّ شرط خالف الكتاب والسنّة فهو ردّ ـ في أنه هل يجوز شرط عدم الضّمان في مورد يقتضي الضّمان، أو شرط الضّمان في مورد يقتضي عدمه، أوْ لا يجوز؟ مثلاً: قوله صلّى اللّه عليه وآله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» بناءً على اعتباره سنداً وتمامية دلالته، يقتضي الضمان، فهل يكون اشتراط عدمه في مورده مخالفاً للسنّة، فلا يجوز؟ وقوله عليه السلام: «لا ضمان على الحمّال» يقتضي عدم الضمان، فهل يكون اشتراطه في مورده مخالفاً للسنّة، فلا يجوز؟ أو فيه تفصيل؟

فقيل بعدم الضّمان، لأنّ صحيح الإجارة غير موجب للضّمان، ففاسدها كذلك بمقتضى القاعدة، وهذا صريح جماعة وظاهر كلام آخرين(1).
وقيل بالضّمان، وهو صريح الرياض، وحكى نسبته إلى المفهوم من كلمات الأصحاب(2)، قال الشيخ: والظاهر أنّ المحكيّ عنه هو المحقّق الأردبيلي(3).
والمحقّق الثاني(4) اختلف كلامه، فاختار في بدو النّظر الضّمان، للفرق بين الإجارة الصحيحة والفاسدة، أمّا في الصحيحة، فلا ضمان، لأنّ يد المستأجر أمانيّة، وأمّا في الفاسدة، فلأنها عدوانيّة، والتصرف في العين حرام لأنه غصب فيضمنه.
ثم قال بعد ذلك بعدم الضمان، لقاعدة ما يضمن بصحيحه فقال: إنه دخل على عدم الضمان بهذا الاستيلاء وإنْ لم يكن مستحقّاً للاستيلاء، (قال) ولو شكّ، فالأصل براءة الذمّة من الضمان، ثم نقض القول بالضمان في الإجارة الفاسدة بالرهن الفاسد، وقد قام الإجماع على عدم الضمان في فاسده كما لا يضمن في صحيحه.
قال الشيخ:
لعلّ الحكم بالضّمان في المسألة، إمّا لخروجها عن قاعدة ما لا يضمن… وإمّا لأنّ قاعدة ما لا يضمن معارضة هنا بقاعدة اليد.
أي: فهي خارجة عن القاعدة تخصّصاً أو تخصيصاً.
أمّا تخصّصاً، فلأنّ القاعدة إنما تجري في العقد بحسب ما تعلّق به، وفي الإجارة يتعلّق العقد بالمنفعة لا بالعين، فضمان العين إذا تلفت في العقد الفاسد مستند إلى دليل آخر غير القاعدة، وهو: إنّ دفع الموجر للعين إنما هو للبناء على استحقاق المستأجر الانتفاع بها، والمفروض عدم الاستحقاق لفساد العقد، فيده عليها يد عدوان موجبة للضّمان.
وأمّا عدم الضّمان للعين في الإجارة الصحيحة، فلأنّ يد المستأجر يدٌ أمانيّة ولا ضمان في الأمانة.
وأمّا تخصيصاً، فلأن القاعدة معارضة في الإجارة الفاسدة بقاعدة اليد، وقاعدة اليد أظهر منها فتقدّم عليها.
هذا شرح كلام الشيخ رحمه اللّه.
وأقول:
إنّ الإجارة على أقسام:
أحدها: أنْ تكون العين المستأجرة بيد المالك، كأن يستأجر السيّارة لحمل المتاع، والذي يقودها هو المالك لها.
ولا كلام في عدم ضمان المستأجر في هذا القسم.
والثاني: أنْ يستأجر السيّارة، ويقودها شخص آخر بإذن من المالك.
ولا كلام في عدم ضمان المستأجر في هذا القسم أيضاً.
والثالث: أن يستأجر السيّارة، ويكون هو القائد لها، وهذا هو محلّ الكلام.
قال الشيخ:
مورد العقد في الإجارة المنفعة، فالعين يرجع في حكمها إلى القواعد… .
فقال المحقق الخراساني: «الإجارة عبارة عن إضافة خاصّة بين العين المؤجرة والمستأجر»(5).
وقال شيخنا الاستاذ: «الإجارة عبارة عن جعل العين في الكراء أو جعل نفسه بالاُجرة ولا يتعدّى إلاّ بالعين، وملك المنفعة لازمها الغالبي…»(6).
وما ذكره شيخنا في غاية الدقّة والمتانة، وقد أوضحناه في كتاب الإجارة بالتفصيل.
وعلى الجملة، إنه لو كان مفاد مادّة الإجارة عبارةً عن تمليك المنفعة، كان للضمان وجه، بأن يكون معنى «آجرتك الدار» تمليك منفعتها، وهذا صحيح، ولو قال: آجرتك نفسي، يكون معناه: ملّكتك منافع نفسي، بأنْ يقصد العمل، إن صحّ التعبير عنه بالمنفعة… .
ولكنّ حقيقة الإجارة ليس تمليك المنفعة.
وقيل: الإجارة هي التسليط على العين للانتفاع بها بعوض، وهو مختار السيّد في العروة(7)، ولا بأس في هذا القول، لكنّه غير جامع للموارد، إذ لا تسليط في مورد الحرّ المستأجر للعمل كالخياطة مثلاً، فما ذكره يختصُّ بإجارة الأعيان ولا يشمل عمل الحرّ.
فسواء تكون الإجارة إضافةً خاصّةً كما قال المحقق الخراساني، أو جعل العين في الكراء كما قال شيخنا، أو التسليط على العين للانتفاع كما قال السيّد، فإنّ العين واقعة في حيّز المستأجر بواسطة المالك، وهو مأذونٌ في التصرّف فيها والانتفاع بها، وحينئذ، لا معنى للقول بالضّمان.
وما ذكره الشيخ ـ من أنّ دفع المالك العين في الإجارة الفاسدة إنما هو من جهة البناء على كون المستأجر مالكاً للمنفعة، والمفروض عدم الملكية، لفساد العقد، فيده يد عدوان موجبة للضمان ـ عجيب جدّاً، لما ذكرنا مراراً من أن القضيّة الخارجيّة تختلف عن الحقيقيّة، فلو سلّم الشيء لغيره بداع من الدواعي، لم يعقل فيه التقدير والتقييد والتعليق، لأن هذه الامور من أحكام القضايا الحقيقيّة الكليّة لا الخارجيّة الجزئيّة، والمفروض هنا أنه قد سلّمه الشيء لاعتقاده بكونه مالكاً للمنفعة، وما وقع في الخارج لا ينقلب عمّا وقع عليه، فهو قد أذن له بالتصرّف وإنْ كان في بنائه وتقديره خطئان، وحينئذ، لا وجه للضّمان.
فالحقّ هو القول بعدم الضمان في الإجارة الفاسدة[2]، والعلم عند اللّه.
[2] تبعاً للمشهور كما نسب إليهم المحقّق الثاني، وعليه الشيخ رحمه اللّه، إذ أنه ـ بعد أنْ وجّه القول بالضّمان إمّا بخروج المسألة عن قاعدة ما لا يضمن تخصّصاً فيحكم بالضمان لقاعدة اليد، أو لتقدّم هذه القاعدة على قاعدة ما لا يضمن بالتخصيص ـ اختار عدم الضمان وصرّح بأنّه «فالقاعدة المذكورة غير مخصّصة بالعين المستأجرة ولا متخصّصة»، أمّا عدم التخصيص، فلأنّ مورد القاعدة هو مورد قاعدة اليد، فلو تقدّمت قاعدة اليد لزم لغويّة قاعدة ما لا يضمن، وأمّا عدم التخصّص فلأنّ مناطه كون مورد قاعدة ما لا يضمن في الإجارة هو المنفعة دون العين، لكنّ تسليم العين في الإجارة الرافع للضّمان في صحيحها حاصلٌ في الفاسد أيضاً، وما ذكره الشيخ في وجه الضّمان فقد عرفت الجواب عنه من كلام السيّد الجدّ، وبذلك يظهر ما في حاشية المحقّق الإيرواني معلّقاً على قول الشّيخ: «والأقوى عدم الضمان» من أنه «لا وجه لتقوية عدم الضمان بعد تماميّة دلالة «على اليد» عنده على الضّمان، مع كون التسليط في المقام بزعم الإستحقاق لا مجّاناً»(8).
فيرجع الأمر إلى ظاهر حال هذا التسليم، فالسيد الجد على أنّه قد أذن للآخذ بالتصرف ولو من باب الوفاء بالعقد والبناء على استحقاق المستأجر، وجب الحكم بعدم الضّمان، وقد اختاره السيّد الخوئي أيضاً إذ قال: «إن تسليم العين للمستأجر وإنْ كان مبنيّاً على صحّة الإجارة وناشئاً من البناء عليها، إلاّ أنّ التسليم قد تحقّق في الخارج على الفرض، فلا معنى لتوقّفه على صحّة الإجارة، فلا محالة يكون البناء على صحتها أو اعتقادها داعياً إلى التسليم الخارجي، وتخلّف الداعي لا يضرّ بتحقّق التسليم أمانةً ولا يوجب ارتفاع حكم الأمانة وهو عدم الضمان مع التلف…»(9).
وبذلك يظهر أنْ لا فرق بين علم الدافع بفساد العقد وجهله به، خلافاً لظاهر كلام السيد(10).

(1) أنظر: القواعد 1 / 234، تحرير الأحكام 1 / 252، التذكرة 2 / 318.
(2) الرياض 2 / 8 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان 10 / 50.
(4) جامع المقاصد 6 / 216.
(5) حاشية المكاسب: 32.
(6) حاشية المكاسب 1 / 328 ـ 329.
(7) العروة الوثقى بحاشية السيد الخوئي 2 / 371.
(8) حاشية المكاسب: 95.
(9) مصباح الفقاهة 3 / 103.
(10) حاشية المكاسب 1 / 458.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *