التطابق في الخصوصيات

وأمّا التطابق في الخصوصيات، كأنْ يبيع مشترطاً لنفسه خيار الفسخ فيقول: بعتك هذا بهذا على أنْ يكون لي خيار الفسخ، فيقبل المشتري البيع دون الخيار، أو يقول: بعتك هذا بهذا بشترط أن تخيط لي ثوباً، فيقبل البيع بلا شرط.
فالمشهور بين الفقهاء: أن تعذّر الشرط أو تخلّفه موجب للخيار، فيظهر أن الشرط أمر خارجي لا يوجب تخلّفه بطلان العقد، وعليه، فما الدليل على البطلان في هذا الفرض كما اختار الشيخ؟
وأيضاً، فقد اتفقوا على ثبوت خيار تبعض الصفقة للمشتري، فله أنْ يحتفظ بما يقبل التملّك من المبيع ببعض الثمن، وهذا هو مقتضى القاعدة، فلماذا يكون البيع باطلاً إنْ اشترى النصف بنصف الثمن؟
وبالجملة: إذا كان خيار تخلّف الشرط وخيار تبعّض الثمن على القاعدة، كان مقتضى تلك القاعدة القول بثبوت الخيار فيما نحن فيه.
ولكلٍّ من استادينا هنا بيان:
فقال الميرزا الاستاذ: إن ثبوت خيار تبعّض الصفقة فرع لصحّة العقد، فلا يكون ثبوته منشأ لصحّته]1[.
]1[ وفي منية الطالب: «ومما ذكرنا ظهر أنه لابدّ من اتّحاد المنشأ حتى بالنسبة إلى التوابع والشروط، فلو أنشأ أحدهما مع شرط وقبل الآخر بلا شرط، أو باع البائع عبدين وقبل المشتري أحدهما، وغير ذلك ممّا هو نظير لما ذكرناه، لم يصح أيضاً، لعدم ارتباط كلام أحدهما بالآخر، ولا يفيد لصحّة العقد المختلف فيه من حيث الإنشاء ثبوت خيار تبعّض الصفقة والتوقف على الإجازة اللّذان هما من آثار العقد الصحيح، لأنه لابدّ أوّلاً من صحّة العقد باتّحاد المنشأ، بأنْ يتقبّل المشتري ما يملّكه البائع وما لا يملّكه كليهما، حتى يتخيَّر بين الفسخ والإمضاء لو علم بالحال، فما يترتّب على الصحّة لا يمكن أن يكون منشأً للصحّة…»(1).

وقال شيخنا الاستاذ: «صحة العقد في مورد تبعض الصفقة إذا كانت على القاعدة، فلا محالة يتوقف الصحّة على وقوع المعاقدة على الفاقد للشرط وعلى بعض الصفقة، وحينئذ فالقبول بلا شرط أو قبول النصف بنصف الثمن، لا يمنع عن تحقق المعاقدة، فاللاّزم تحقق المعاقدة بالإضافة إلى ما يراد الحكم بصحته. فتدبر»(2).
أي: إن معنى ثبوت الخيار في الموردين هو أنّ تبعّض الصفقة وتخلّف الشرط لا ينافيان تحقق المعاقدة، ولو كانا ينافيانه لقالوا بالبطلان، فلماذا تقولون هنا بالبطلان؟
وعلى الجملة، فإنّ مقتضى القاعدة ثبوت الخيار، كسائر موارد خيار تخلّف الشرط وخيار تبعّض الصفقة، فالقول بكون الخيار في تلك الموارد على القاعدة، والقول ببطلان البيع هنا متنافيان، إذ لا فرق بين صورة تخلّف الشّرط بعد وقوع البيع، وصورة عدم قبوله من أوّل الأمر.
وما ذكره الميرزا الاستاذ من أنّ سبب ثبوت الخيار عند تبعّض الصفقة ـ فيجوز له أنْ يحتفظ ببعض المال ببعض الثمن ـ هو وقوع العقد صحيحاً على ذلك البعض الذي يمسكه المشتري، وكذا في مورد تخلّف الشرط، فإنّ جواز احتفاظه بالشيء مع تخلّف العقد متفرع على صحّة العقد الواقع على ذات المبيع.
فيه: إنّ ثبوت خيار تبعض الصّفقة ليس على أثر صحة العقد، بل هو على أثر نفوذ العقد بالنسبة إلى بعض الصفقة وعدم نفوذه بالنسبة إلى البعض الآخر، وهذا بعينه يقتضي ثبوت الخيار فيما نحن فيه، لأنّ العقد بالنسبة إلى ما قُبل نافذ وبالنسبة إلى ما لم يُقبل غير نافذ، فلا فرق بين مورد البحث وموارد خيار تبعّض الصّفقة… وكذا الأمر في خيار تخلّف الشرط بلا فرق.
وبعبارة اخرى: منشأ الخيار هو تأثير العقد في البعض، بأنْ يكون مالكاً له لصحة العقد، وعدم تأثيره في البعض الآخر، لعدم كونه ملكاً للبائع أو كون فاسداً مثلاً، فالعقد بالنسبة إليه فاسد، وهذا المنشأ بعينه موجود فيما نحن فيه، ولا وجه للقول بالفساد هنا]1[.
]1[ أقول: وقال المحقّق الإيرواني بالصحّة ببيان آخر وهذه عبارته معلّقاً على قول الشيخ «أو توابع العقد من الشروط»: «إذا كان فساد الشرط لا يخلّ بصحّة العقد، فعدم قبول المشتري للشرط الذي تضمّنه الإيجاب أولى بعدم الإخلال»(3).

والتحقيق:
فيما لو باع شيئاً وقبل المشتري نصفه بنصف الثمن، وأمثال ذلك، إنه إذا عرضت صفة على مركّب فإنها تنبسط على جميع أجزائه، لأن المركب عبارة عن نفس الأجزاء بالأصل، فكلّ جزء من أجزائه يتّصف بتلك الصفة لا محالة، فإذا باع مجموع الصّفقة فقد عرضت الملكية على أجزاء تلك الصفقة بأسرها، فإذا قبل المشتري بعض الصّفقة بنصف الثمن ولم يقبل الآخر، لم يصح، لأن ملكية البعض الذي قبله متفرعة على العقد، وتمامية العقد موقوفة على قبوله، فلا معنى لتقدّم الملكيّة على القبول.
وبعبارة اخرى: إن السبب المملّك هو العقد، والذي انبسط على أجزاء المبيع هو التمليك الإنشائي للبائع، لكنّ تملّك المشتري للبعض موقوف على العقد وتمامية العقد موقوفة على قبول المشتري، فكيف يكون مالكاً للنصف وهو غير قابل للعقد؟
أمّا في موارد خيار تبعّض الصّفقة، فالمفروض تماميّة العقد، إذ البائع أوجب البيع بالنسبة إلى الصفقة كلّها، والمشتري قِبَل ما فعله البائع، وانبسط العقد على جميع الأجزاء، وحصل التطابق بين الإيجاب والقبول، غير أنّه قد ظهر بدليل شرعي عدم صلاحية نصف المبيع لملكيّة المشتري، فهو لا يملك هذا النصف ويملك النصف الآخر، وحيث كان من قصده شراء كلّ الصفقة لا نصفها، فله الخيار في الالتزام بالعقد وإنفاذ المعاملة بالنسبة إلى النصف، وعدم الالتزام به وفسخه.
فظهر أنّ الصحيح هو البطلان فيما نحن فيه وفاقاً للشيخ، وظهر الفرق بينه وبين موارد الخيار.
هذا بالنسبة إلى خيار تبعّض الصفقة.
وتلخّص:
ضرورة التطابق بين الإيجاب والقبول في الجهة الاولى وهي مادّة المعاملة، وإلاّ لم يتحقق العقد.
وأمّا في الجهة الثانية، وهي في المتعاقدين، فقد كان لنا تفصيل.
الجهة الثالثة: التطابق فيما يقع عليه العقد سواء المعاوضي وغير المعاوضي.
إنّه لابدّ من التطابق في هذه الجهة، والاختلاف من حيث الشخص والصنف مضرّ بصحّة العقد، لأن عنوان العقدية متقوّم بوحدة العهدين، ولولا توافقهما في العهد فلا يتحقق العقد.
أمّا لو وقع الاختلاف بينهما من حيث البعض والكلّ، فهنا ربما يقال بالصحة والخيار.
وما يمكن أن يبرهن به على هذا القول هو: إنّ كلّ صفة تعرض على المركب لا محالة تكون عارضة لأجزائه، إذ ليس المركب غير الأجزاء، فلو باع الدار بمائة دينار فقال المشتري: قبلت نصفها بخمسين ديناراً، صحّ العقد وثبت الخيار للبائع، نظير ما لو باع شيئاً وقبل المشتري ثم بان أن بعض الثمن ليس ملكاً للمشتري، فله خيار تبعّض الصفقة كما تقرر في محلّه.
وفيه: إن المشتري إنما يملك ما أوجب العقد ملكيّته له، فالمؤثر هو الملكيّة العقديّة لا الملكية الإنشائية من ناحية البائع، والملكيّة العقدية عبارة عن توافق العهدين على الشيء الواحد، والعهد أمر بسيط، وهو ينحلّ انحلالاً عقليّاً على كلّ جزء جزء من المركّب ويكون مورداً للعهد، وهذا التوافق غير متحقّق إلاّ بأحد النصفين، أمّا النصف الآخر فلا توافق عليه، لأنّ عهد البائع بالنسبة إليه ضمني وعهد المشتري استقلالي، وإذا اختلف العهدان لم يتحقّق العقد.
وبعبارة اخرى: العهد الضمني الانحلالي للنصف لا ثبوت له إلاّ بثبوت الكلّ، فلمّا تعهّد البائع بالنسبة للكلّ فقد تعهّد بالنسبة للنصف ضمناً، لكنّ المشتري بقبوله للنصف فقط تعهّد بالنسبة إليه بالاستقلال، فلو أريد إيجاد توافق العهدين بالنسبة إلى هذا النصف الذي قبله المشترى لزم أنْ يكون من ناحية القبول، ولكنّ القبول متوقف على تحقق العهد من البائع بالنسبة إليه ـ لأن القبول فرع الإيجاب ـ فيلزم الدور.
هذا بالنسبة إلى الجهة الثالثة.
وأمّا الجهة الرّابعة، وهي التطابق في التوابع والخصوصيات]1[، فإنّ للشرائط صوراً، فإن كان المبيع كليّاً والشرط منوّعٌ له، فوقع الاختلاف، بطل العقد، لأن الإيجاب والقبول مع اختلاف العوضين جنساً أو صنفاً أو نوعاً، غير واردين على مورد واحد، وهو موجب للبطلان كما تقدم.
]1[ وقد كانت هذه الجهة محطّ النظر ومعركة الآراء، حتى أن مثل السيد الخوئي اختلف رأيه فيها، إذ اختار أوّلاً الصحّة(4) ثم عدل إلى القول بالبطلان قال: «والوجه في ذلك ما نذكره في مبحث الشروط من أنّ مرجع اعتبار الشرط في العقد إمّا إلى تعليق العقد على التزام المشروط عليه بشيء، أو إلى تعليق لزومه على شيء، أو تعليقهما معاً. أمّا الأوّل، فكاشتراط شرط في عقد الزواج، أمّا الثاني، فكاشتراط الكتابة في العبد المبيع، وأمّا الثالث، فكاشتراط عمل في البيع ونحوه. ونذكر في البحث المذكور أن تعليق اللّزوم يرجع إلى جعل الخيار، وجعل الخيار إنما يرجع إلى تحديد المنشَأ، وفي جميع ذلك يكون عدم التطابق موجباً للبطلان»(5).
وعلى الجملة، فإنّ التحقيق في المسألة يكون مع لحاظ المبنى في الشروط، من حيث وحدة المطلوب وتعدّده، وأنّ الالتزام العقدي يلازم الالتزام اللزومي أوْلا، وأن فساد الشّرط مخلّ بصحّة العقد أوْلا، وأيضاً بالنظر إلى صور الشرط.
وقد اختار السيّد الجدّ البطلان في الصّورة المتنازع فيها، بعد أنْ وجّه القول بالصحّة وناقش ما ذكره شيخه النائيني في وجه البطلان.

وإنْ كان الشرط أمراً خارجاً، كما لو باع بشرط الخيار وكان قبول المشتري بدون الخيار، وظاهر معنى البيع بشرط الخيار هو نفي ما كان يقتضيه ظاهر حاله من الالتزام بالعقد وعدم الرجوع عنه، لكنّ المشتري إنّما يقبل بلا خيار للبائع، فمقتضى القاعدة صحّة العقد، لأن التزام البائع بالعقد خارج عن ماهيّته، فالعقد واقع، غير أنّ المشتري يطلب من البائع الالتزام به وهو لا يريد، فهما متوافقان على العقد ومختلفان فيما هو خارج عن حقيقته.
أمّا لو باعه الدار واشترط عليه خياطة ثوب له مثلاً، فإنْ كان تمليكه منوطاً بالخياطة، فما لم تتحقّق لم يجز له التصرّف، لكنهم يقولون بصحّة العقد، وهذا يكشف عن أنّ العقد غير منوط بالشرط، فهنا احتمالان:
فالمحكي عن المشهور هو الصحّة، لأن المنوط به الالتزام بالتمليك هو التزام الطرف الآخر بخياطة الثوب، فإذا التزم صحّ العقد لتحقق الالتزام من الطرفين، وأمّا اختلافهما في الشرط فلا يضرّ بالعقد لأنه خارج عن حقيقته.
لكنّ الإنصاف أنه بعيد عن ظاهر الكلام، فإن قول البائع: ملكتك هذا بشرط أن تخيط لي ثوباً، ظاهر في إناطة التمليك، فإذا قال: قبلت من دون الالتزام بالشرط حصل الاختلاف وبطل العقد.

(1) منية الطالب 1 / 114.
(2) حاشية المكاسب 1 / 291.
(3) حاشية المكاسب: 92.
(4) محاضرات في الفقه الجعفري 2 / 140.
(5) مصباح الفقاهة 3 / 73.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *