أدلّة الضّمان

أدلّة الضّمان
استدلّ للمشهور:
أوّلاً: بقاعدة اليد، وحاصله: إن المنافع أموالٌ، وهي مقبوضة في يد من بيده العين بتبعها، قال: ولذا يجري على المنفعة حكم المقبوض إذا قبض العين، فتدخل في ضمان المستأجر.
قال: ويتحقق قبض الثمن في السلم بقبض الجارية المجعول خدمتها ثمناً، وكذا الدار المجعول سكناها ثمناً.
فاليد على المنفعة تتحقّق باليد على العين.
فالضمان ثابت فيها بقاعدة اليد.
وثانياً: بقاعدة احترام مال المسلم، المستفادة من النصوص المذكور بعضها في البحوث السابقة، كقوله صلّى اللّه عليه وآله:
«فإن دمائكم وأموالكم حرام…(1).
وقوله صلّى اللّه عليه وآله:
«يا أباذر، سباب المسلم فسوق وقتاله كفر… وحرمة ماله كحرمة دمه»(2).
وقوله صلّى اللّه عليه وآله:
«… وحرمة ماله كحرمة دمه»(3).
قال الشيخ في الجواب:
ولكن يشكل الحكم ـ بعد تسليم كون المنافع أموالاً حقيقةً ـ بأنّ مجرّد ذلك لا يكفي في تحقق الضمان، إلاّ أنْ يندرج في عموم على اليد… .
أقول:
حاصله ـ بعد الإشكال في صدق عنوان المال حقيقةً على المنفعة ـ الإشكال في اندراج المنافع غير المستوفاة في عموم قاعدة اليد، من جهة عدم شمول عنوان «الأخذ» للمنافع، قال:
وحصولها في اليد بقبض العين، لا يوجب صدق الأخذ، ودعوى: أنه كناية عن مطلق الاستيلاء الحاصل في المنافع بقبض الأعيان، مشكلة.
فهو لا يوافق على جريان القاعدة هنا، لأنّ «الأخذ» إنما يصدق مع الشيء الموجود في الخارج، وأمّا منفعة الدار ـ مثلاً ـ التي هي عبارة عن حيثية قابليّتها للسكنى، فأمر معنوي، والسكنى من الأعراض القائمة بالساكن ولا ربط لها بالدار، وكذا الركوب، فإنه من أعراض الراكب ولا ربط له بالدابّة المقبوضة في يد المشتري لها.
وأجاب عن الدليل الثاني قائلاً:
وأمّا احترام مال المسلم، فإنما يقتضي عدم حلّ التصرّف فيه وإتلافه بلا عوض، وإنما يتحقق ذلك في الإستيفاء.
أي: فكما لا يجوز إتلاف دم المسلم، كذلك لا يجوز إتلاف ماله، ولا ربط لهذه القاعدة بالمنافع غير المستوفاة.
وأمّا الاستشهاد لقول المشهور بأنّ إقباض المنفعة بإقباض العين، ولذا يتحقّق قبض المنفعة بقبض العين المستأجرة، فتقريب جواب الشيخ عنه: أنّ الإجارة قد تعلّقت هناك بالعين بمالها من قابلية الانتفاع، ولذا يقال آجرتك الدّار ولا يقال آجرتك المنفعة، فالإقباض واقع بما وقع عليه العقد، وهو العين بمالها من حيثية قابلية الانتفاع.
والحاصل: إن تلك الموارد لا تشهد بوقوع المنافع تحت اليد.
أقول:
ولكنّ التحقيق:
أمّا في قاعدة اليد، فالإشكال ليس من جهة «اليد» و«ما» و«الأخذ»، فإنّ ذلك كلّه يشمل المنافع، بل الإشكال الوارد من جهة الغاية، لأن قوله «حتى تؤدي» بمعنى: حتى ترجع، وهو صادق في الأعيان الخارجيّة دون المنافع، فالحديث غير شامل لها من هذه الناحية.
وأمّا في قاعدة الإحترام، فما ذكره وإنْ كان متيناً إلاّ أنه لم يتّضح أن يكون ذلك هو المراد، إذْ لا يبعد أنْ يكون المراد من «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» أنّ العقاب الشّديد المترتّب على قتله بغير حق، يترتّب كذلك على إتلاف ماله، لا أن عليه إنْ أتلف دفع البدل، أو أنه لكونه دم المسلم أو ماله محترمٌ، فالرواية ناظرة إلى حيثيّة المساواة بين ماله ودمه في ترتّب العقاب، لا إلى وجوب دفع البدل إن اُتلف.
وعلى الجملة، فالقاعدة غير دالّة على فتوى المشهور.
ثم إنّ الميرزا الاستاذ قدس سرّه استدلّ للضمان هنا بقاعدة الإتلاف، بأنّ المشتري وإنْ لم يستوف المنافع فقد أتلفها على البائع، فإطلاق القاعدة يشمل ما نحن فيه.
وفيه:
أوّلاً: إن «الإتلاف» هو إعدام الشيء الموجود، فلا يصدق على مورد البحث، نعم، المشتري قد منع البائع من الانتفاع، وهذه معصية بلا إشكال ولكنّه غير الضمان.
وثانياً: إنّ عبارة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» ليست بلفظ صادر عن المعصوم، وإنما هي قاعدة متّخذة من الحكم بالضمان في موارد معيّنة، فالتعدّي عن تلك الموارد ودعوى الاطلاق في القاعدة غير صحيح[1].
[1] فذكر طاب ثراه ثلاثة وجوه وأجاب عنها، وهي:
1 ـ قاعدة اليد.
2 ـ قاعدة الاحترام.
3 ـ قاعدة الإتلاف.
وبقيت وجوه لم يتعرّض لها:
الأوّل: قاعدة لا ضرر، إذ أن الحكم بعدم ضمان القابض المنافع الفائتة لما قبضه من الأعيان ضرر على المالك.
فأشكل عليه المحقق الخوئي بوجهين، أحدهما: أن الحكم بضمان القابض ضرر عليه، فتقع المعارضة في شمول القاعدة لكلا الطرفين. والثاني: إن القاعدة المذكورة إنما تنفي الأحكام الضرريّة، ولا دلالة فيها على إثبات حكم آخر يلزم الضرر من عدم جعله(4).
وقد قرّب المحقق الرشتي الاستدلال بقاعدة لا ضرر بوجه آخر فقال على ما نقله عنه بعض مشايخنا دام بقاه في بحثه: إنّ الأحكام الشرعية منها وجودية ومنها عدميّة، وكلّ منهما منه تأسيسي ومنها إمضائي، وما دلّ على البراءة الاصليّة جاء امضاءً للارتكاز العقلائي، فكانت أصالة البراءة من الأحكام الشرعيّة العدمية، فالمجعول في مورد حديث الرفع عند الشك في اشتغال الذمّة هو الحكم بالعدم والبراءة، وعليه، فإنّ مقتضى الأصل عدم ضمان المشتري للمنافع الفائتة على المالك، لكنّه حكم ضرري بالنسبة المالك ومقتضى قاعدة لا ضرر رفعه، فيثبت الضّمان.
ثم أورد على نفسه: بأنّ قاعدة نفي الضرر لا تجري لذهاب المشهور إلى عدم الضمان في موارد ضرريّة، كمسألة ما لو حبس الدابّة فمات ولدها، أو حبس الحرّ الكسوب، وأمثالهما، فإنّ كثرة التخصيص في القاعدة موجب لسقوطها عن الاستدلال بها في المقام.
فأجاب: بأنّ ذلك يوجب التوقف عن الأخذ بها إلاّ في المورد الذي عمل بها المشهور، وما نحن فيه من ذلك، فكانت دليلاً على ثبوت الضمان فيه.
لكنّ الاشكال العمدة هو ما تقدّم من أن قاعدة لا ضرر نافية للأحكام الضرريّة ولا تصلح لإثبات الحكم.
وأمّا الاستناد إلى عمل المشهور برواية فإنّما هو في مورد تحقّق الظهور للفظ الرواية بعملهم بها، وليس المورد من هذا القبيل كما هو واضح.
والثاني: قوله عليه الصّلاة والسّلام: «لا يحلّ لأحد أنْ يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(5).
وفيه ما تقدَّم من السيّد الجدّ طاب ثراه في معناه.
والثالث: الإجماع. قال الشيخ في آخر كلامه:
قد عرفت أن التوقف أقرب إلى الإنصاف، إلاّ أن المحكي من التذكرة ما لفظه: إن منافع الأموال من العبيد والثياب والعقار وغيرها مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد العادية، فلو غصب عبداً أو جاريةً أو ثوباً أو عقاراً أو حيواناً أو مملوكاً، ضمن منافعه، سواء أتلفها بأنْ استعملها أو فاتت تحت يده، بأن بقيت في يده مدةً ولا يستعملها، عند علمائنا أجمع(6)… .
وأظهر منه ما في السرائر ـ في آخر باب الإجارة ـ من الاتفاق أيضاً على ضمان منافع المغصوب الفائتة، مع قوله في باب البيع: إنّ الفاسد عند أصحابنا بمنزلة للشيء المغصوب إلاّ في ارتفاع الإثم عن إمساكه(7).
وعلى هذا، فالقول بالضمان لا يخلو عن قوة… .
وقد وقع الكلام في استدلال الشيخ بالإجماع في هذا المقام، فقال السيد:
الإنصاف أنه لا وجه للقول بالضمان من جهة هذين الإجماعين المنقولين بعد عدم حجية الاجماع المنقول وعدم معلومية الشمول للمقام(8).
فأجاب المحقق النائيني بأنّ اختياره الضمان أخيراً ليس لاعتماده على الاجماع المنقول مع أنه منكر لحجيّته في الاصول، بل اعتمد على نقل الاجماع من جهة كشف اتفاق الأعلام على شمول قاعدة اليد والاحترام للمنافع(9).
فتعجب تلميذه المحقق من هذا الكلام بأنّ الشيخ قد ناقش في كلتا القاعدتين صريحاً في صدر كلامه وحكم بعدم إمكان التمسك بهما هنا، ومعه كيف يعتمد عليهما في ذيل كلامه(10).
لكنّ بعض مشايخنا دام بقاه قرّب كلام الميرزا رحمه اللّه بأنّ الشّيخ بعد أنْ اشكل في الاستدلال بحديث «على اليد» من جهة أنّ «الأخذ» لا يصدق على المنافع ثم قال: «ودعوى أنه كناية عن مطلق الاستيلاء الحاصل في المنافع بقبض الأعيان مشكلة» لم يبطل الاستدلال بالقاعدة، وإنما قال بأنّ الدعوى المذكورة «مشكلة» ثم أراد رفع الاشكال في الدعوى عن طريق الإجماع، بأنْ يُجعل شاهداً للدعوى بحيث يتمُ به ظهور لفظ الحديث. وعلى الجملة، فإنه لم يعتمد على الإجماع المنقول ليقال بأنه خلاف ما قرّره في الاصول، وإنما اتّخذه متمّماً لإحراز ظهور «الأخذ» في «الاستيلاء» وأنّ هذا الاستعمال متعارف بين أهل اللّسان.
لكنْ لو فرض إرادة الشيخ هذا المعنى للقول بالضمان، فإنّه غير جازم بذلك وإنما قال: «لا يخلو عن قوّة» هذا أولاً. وثانياً: لو سلّمنا ذلك كلّه، فإن الاشكال في الاستدلال ليس من جهة عدم صدق «الأخذ» بل من جهة عدم صدق «حتى تؤدي» كما ذكر السيد الجدّ طاب ثراه.

أقول:
قد يمكن الاستدلال للضّمان بقاعدة الحيلولة، فإنّها تجري تارةً: في الحيلولة بين المالك وملكه، واخرى: في الحيلولة دون انتفاعه بملكه، وثالثة: بين العين وماليّتها، ورابعة: بين العين وإضافتها إلى المالك.
ولنذكر نصوص بعض الروايات:
عن الحلبي، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «سألته عن المملوك بين شركاء، فيعتق أحدهم نصيبه. فقال:
إن ذلك فساد على أصحابه فلا يستطيعون بيعه ولا مؤاجرته، فقال: يقوَّم قيمةً فيجعل على الذي أعتقه عقوبة، وإنما جعل ذلك عليه لما أفسده»(11).
وعنه عن أبي عبداللّه عليه السلام: «في جارية كانت بين اثنين، فأعتق أحدهما نصيبه. قال: إنْ كان موسراً كلّف أن يضمن، فإنْ كان معسراً خدمت بالحصص»(12).
دلّت على أن إعدام مالية الشيء موجب للضمان.
وعن سماعة قال: «سألته عن المملوك بين شركاء، فيعتق أحدهم نصيبه. فقال: هذا فساد على أصحابه، يقوّم قيمةً ويضمن الثمن الذي أعتقه لأنه أفسده على أصحابه»(13).
وهذه صريحة في المقصود.
و عن سدير عن أبي جعفر عليه السلام: «في الرجل يأتي البهيمة. قال: يجلد دون الحدّ ويغرم قيمة البهيمة لصاحبها، لأنه أفسدها عليه، وتذبح وتحرق إن كانت ممّا يؤكل لحمه، وإنْ كانت ممّا يركب ظهره غرم قيمتها وجلد دون الحدّ…»(14).
دلّت على الضمان بسقوط الحيوان عن المالية، أو بسقوط إضافتها إلى صاحبها.
وعن أحدهما قال: «في الشّهود إذا رجعوا عن شهادتهم وقد قضي على الرجل ضمنوا ما شهدوا به وغرموا، وإنْ لم يكن قضي طرحت شهادتهم ولم يغرموا الشهود شيئاً»(15).
دلّت على الضمان لكونهم السّبب في انقطاع إضافة المال إلى مالكه.
فنحن نستفيد من هذه النصوص أن إسقاط المال عن الماليّة أو التسبّب إلى انقطاع إضافته إلى مالكه، موجب للضمان، وما نحن فيه كذلك، أللّهم إلاّ أنْ يكون المالك عالماً بالفساد، فلا ضمان حينئذ.

(1) بحار الأنوار 21 / 405.
(2) وسائل الشيعة 12 / 281، باب تحريم اغتياب المؤمن ولو كان صدقاً، الرّقم: 9.
(3) نفس المصدر.
(4) مصباح الفقاهة 3 / 142.
(5) وسائل الشيعة 25 / 386، الباب 1 من كتاب الغصب، الرّقم: 4.
(6) تذكرة الفقهاء 2 / 381 الطبعة القديمة.
(7) السرائر 2 / 479 و 326.
(8) حاشية المكاسب 1 / 467.
(9) منية الطالب 1 / 134.
(10) مصباح الفقاهة 3 / 144.
(11) وسائل الشيعة 23 / 36، الباب 18 من أبواب العتق، الرّقم: 1.
(12) وسائل الشيعة 23 / 38، الباب 18 من أبواب العتق، الرّقم: 7.
(13) وسائل الشيعة 23 / 38، الباب 18 من أبواب العتق، الرّقم: 5.
(14) وسائل الشيعة 28 / 358، الباب 1 من أبواب نكاح البهائم، الرّقم: 4.
(15) وسائل الشيعة 27 / 326، الباب 10 من أبواب كتاب الشهادات، الرّقم: 1.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *