المسألة الرابعة
( في تتبّع الحاكم حكم من قبله )
قال المحقق قدّس سرّه: « ليس على الحاكم الثاني تتبع حكم من كان قبله »(1).
أقول: ليس على الحاكم الثاني تتبع حكم الأوّل ، حملاً لذلك الحكم على الصحّة، وإن جاز له ذلك، سواء طلب المحكوم عليه ذلك أو لا، للأصل.
وأشكل في الجواز بأن التتبع قد يظهر خطأ الحاكم الأوّل، فعليه ترك التتبع لئلاّ يؤدّي إلى ذلك وحمل الحكم على الصحة وإنفاذه، نعم ، إذا طولب بالحكم في المسألة كان عليه الفحص والتتبع.
وفيه: إن العثور على خطأ الحاكم الأوّل لا يوجب القدح فيه ألبتة حتى لا يجوز، إذ لا يسلم من الخطأ إلاّ أهل العصمة عليهم الصلاة والسلام. نعم، لو علم بأن تفحصه سيؤدّي إلى العلم بفسق الحاكم الأوّل، لم يجز له التتبع ، إلاّ إذا توقف عليه إحقاق حق أو إنجاء نفس محترمة مثلاً.
وبالجملة، فإن النظر في حكم الأوّل يحتاج إلى مسوّغ، كأن يطلب المحكوم عليه ذلك ، أو يتوقف عليه إحقاق حق ، أو إنجاء نفس محترمة أو نحو ذلك، والعثور على الخطأ ليس بقادح.
وقد حمل في ( الجواهر )(2) قول بعضهم بلزوم النظر على الثاني، على صورة عدم تمام حكم الحاكم الأوّل ، أو تراضي الخصمين بتجديد النظر.
نعم، لو علم الثاني بفساد حكم الأوّل، وجب عليه التتبع، سواء كان من حقوق الله تعالى أو حقوق الناس، وقيل: لو رضي المحكوم له بذلك في حقوق الناس.
قال المحقق: « لكن لو زعم المحكوم عليه أن الأوّل حكم عليه بالجور ، لزمه النظر ».
قال في ( الجواهر ): بلا خلاف أجده بين من تعرّض له منّا، وأوضحه بقوله: لأنها دعوى لا دليل على عدم سماعها، فتبقى مندرجة في إطلاق ما دلّ على قبول كلّ دعوى من مدّعيها من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم « البينة على المدعي » وغيره(3).
أقول: وأيّ دلالة لهذا الحديث على وجوب استماع الدعوى والنظر ؟ فالصحيح التمسك بأدلة وجوب القضاء.
فإن قيل: لعلّ وجه الدلالة أنه لمّا يدعي على الأوّل الحكم بالجور، فإن الحاكم الثاني يطالبه بالبينة وينظر في القضية.
قلنا : إن الأمر الإجتهادي والحكم الشرعي ليس من الأمور التي تقام البينة عليها، بل يجب عليه النظر في حكم الأوّل وأدلّته ـ عند دعوى الجور ـ ثم الحكم في القضية عن علم.
فظهر أن مورد النظر في حكم الأوّل دعوى المحكوم عليه حكمه بالجور أو علم الثاني بفساد حكمه، ومن هنا قال المحقق:
« وكذا لو ثبت عنده ما يبطل حكم الأوّل أبطله ، سواء(4) كان من حقوق الله تعالى أو حقوق الناس »(5).
وقيل: إن الحاكم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام ـ خصوصاً أو عموماً ـ له الولاية على الناس وحكمه نافذ، فكما لا تسمع دعوى المولّى عليه على وليّه، لا تسمع دعوى المحكوم عليه على الحاكم. هذا ما قاله بعضهم ، ولذا حمل كلام المحقق على صورة كون الحاكم الأوّل معزولاً، ولا ولاية له على المحكوم عليه حين الدعوى.
لكن فيه: إن النظر في حكم الأوّل في صورة العلم بفساده أو دعوى المحكوم عليه الجور ، ليس نقضاً لحكمه و ردّاً عليه، وهو وإن كان له الولاية ، إلاّ أنه قد ولي لأن يحكم بالحق، ومع الجور في الحكم أو العلم بفساده فلا مانع من النظر فيه، والمولّى عليه إن علم بفساد عمل من أعمال وليّه المتعلقة بأموره ، يجوز له الردّ عليه ، فلو عقد له امرأة وظهر له فساد العقد لم يقبل هذه الزوجيّة، لأنه كان وليّاً عليه لأن يوقع عقداً صحيحاً ، وحيث لم يكن عقده كذلك لم يكن عليه القبول، ويترتّب الأثر على ردّه عندما يكون متمكناً منه.
(1) شرائع الإسلام 4 : 76.
(2) جواهر الكلام 40 : 103.
(3) جواهر الكلام 40 : 103.
(4) قول المحقق « سواء كان من حقوق الله تعالى أو حقوق الناس » إشارة إلى ما عن الشيخ ـ وتبعه بعضهم ـ من أنه لا ينقض حق الآدمي إلا مع المطالبة، لأن صاحب الحق ربما أسقطه، وأما إذا كان حقاً لله تعالى فإنه ينقضه لأن له النظر في حقوق الله تعالى.
(5) شرائع الإسلام 4 : 76.