4 ـ في مراتب التحمل

4 ـ في مراتب التحمل
قال المحقق قدّس سرّه «وللتحمل مراتب، أتمها أن يقول شاهد الأصل: إشهد على شهادتي أنني أشهد على فلان بن فلان لفلان بن فلان بكذا. وهو الاسترعاء»(1).
أقول: إن الأصل في ذكر هذه المراتب هو الشيخ في (المبسوط) فإنه رحمه الله قال: «أما التحمل، وهو أن يصير شاهد الفرع متحملاً لشهادة شاهد الأصل ، فإنه يصح بأحد أسباب ثلاثة:
أحدها: الإسترعاء، وهو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم، فاشهد على شهادتي، فهذا هو الإسترعاء.
الثاني: أن يسمع شاهد الفرع شاهد الأصل يشهد بالحق عند الحاكم، فإذا سمعه يشهد به عند الحاكم صار متحملاً لشهادته.
الثالث: أن يشهد الأصل بالحق ويعزيه إلى سبب وجوبه فيقول: أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم، من ثمن ثوب أو عبد أو دار أو ضمان أو دين أو إتلاف ونحو هذا، فإذا عزاه إلى سبب وجوبه صار متحملاً للشهادة.
فأما إن لم يكن هناك استرعاء، ولا سمعه يشهد به عند الحاكم، ولا عزاه إلى سبب وجوبه، مثل أن سمعه يقول أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم، فإنه لا يصير بهذا متحملاً للشهادة على شهادته، لأن قوله: أشهد بذلك ينقسم إلى الشهادة بالحق، ويحتمل العلم به على وجه لا يشهد به، وهو أن يسمع الناس يقولون لفلان على فلان كذا وكذا وقف التحمل بهذا الاحتمال، فإذا استرعاه أو شهد به عند الحاكم أو عزاه إلى سبب وجوبه زال الإشكال(2).
أقول: قال في (الرياض) إنه لا يجوز للفرع التحمل إلا إذا عرف أن عند الأصل شهادة جازمة بحق ثابت، بلا خلاف، لأنه المتبادر والمعنى الحقيقي للشهادة على الشهادة(3)… والظاهر أن ما ذكره الشيخ بيان لمصاديق لذلك، وإلا فقد نص جماعة على أنه ليس للمراتب المذكورة في النصوص أثر، نعم ، جاءت المرتبة الاولى في خبر عمرو بن جميع عن أبي عبد الله عليه السلام حيث قال له: «أشهد على شهادتك من ينصحك. قال: أصلحك الله، كيف؟ يزيد وينقص؟ قال: لا، ولكن يحفظها عليك…» ومن هنا، فقد وقع الخلاف بينهم في قبول التحمل فيما عدا المرتبة الاولى.
وأعرض جماعة عن ذكر المراتب، وجعلوا المدار على علم الفرع بالشهادة الجازمة للأصل.. كما سيأتي.
وكيف كان، فإن المرتبة الاولى التي هي أتم المراتب هي الإسترعاء.
والمقصود من ذلك التماس شاهد الأصل رعاية شهادته والشهادة بها، قال في (الكفاية): ولا أعرف خلافاً في جواز الشهادة معه(4)، بل في (المسالك) وعن غيرها الاجماع عليه(5).
ومثل ما ذكره المحقق من اللفظ أن يقول: «اشهدك على شهادتي… أو: إذا استشهدت على شهادتي فقد أذنت لك في أن تشهد» ونحو ذلك…
هذا ما نسب إلى الأكثر.
قال في (الجواهر): وربما قيل: إن الإسترعاء هو أن يقول: اُشهدك عن شهادتي، والفرق بين «عن» و «على» أن قوله: اشهدك على شهادتي تحميل، وقوله: عن شهادتي إذن في الأداء، فكأنه يقول: أدّها عني، إذ لإذنه أثر في ذلك ، ألا تراه لو قال له بعد التحميل: لا تؤدّ عني تلك الشهادة، امتنع عليه الأداء. ومن هنا يحكى عن بعضهم ترجيح «عن» على «على» بل ناقش في «على» بأنها تقتضي كون الشهادة مشهوداً عليها، وإنما هي مشهود بها والمشهود عليه الشاهد، ولابدّ من التمييز بين المشهود به وله وعليه.
قال: لكن لا يخفى عليك ما في هذه الكلمات التي هي في الحقيقة من اللغو، وهي بالعامة أليق منها بالخاصة، ضرورة كون المراد واضحاً، ونصوص المقام مملوّة من لفظ «الشهادة على الشهادة»(6)…
قلت: والأولى هو التفصيل بين ما إذا قال: إشهد… فلفظ «عن» وما إذا قال: أشهدتك فلفظ «على».
هذا، وقد ألحقوا بالتحمل بالاسترعاء ما إذا سمعه يسترعي شاهداً آخر.
وذكر المحقق المرتبة الثانية بقوله:
«وأخفض منه أن يسمعه يشهد عند الحاكم، إذ لا ريب في تصريحه هناك بالشهادة»(7).
ففي هذه الصورة يجوز للفرع أن يتحمل الشهادة استرعاه الأصل أو لم يسترعه، لصدق كونها شهادة على شهادة، وانتفاء احتمال الوعد والتساهل، قال في (الكفاية): وهذا هو المشهور، ويظهر من كلام ابن الجنيد المخالفة في ذلك(8)، لأنه خص القبول بالاسترعاء، وهو كما في (الجواهر) واضح الضعف، ضرورة عدم اعتبار التحميل في صحة التحمل، لإطلاق أدلة المقام وغيرها(9).
وذكر المحقق المرتبة الثالثة بقوله:
«ويليه أن يسمعه يقول: أنا أشهد على فلان بن فلان، لفلان بن فلان بكذا، أو يذكر السبب، مثل أن يقول: من ثمن ثوب أو عقار، إذ هي صورة جزم، وفيه تردد.
أما لو لم يذكر سبب الحق، بل اقتصر على قوله: أشهد لفلان على فلان بكذا، لم يصر متحمّلا، لاعتياد التسامح بمثله.
وفي الفرق بين هذه وبين ذكر السبب إشكال، ففي صورة الإسترعاء يقول: أشهدني فلان على شهادته، وفي صورة سماعه عند الحاكم يقول: أشهد أن فلاناً شهد عند الحاكم بكذا، وفي صورة السماع لا عنده يقول: أشهد أن فلاناً شهد على فلان لفلان بكذا بسبب كذا»(10).
أقول: قد ذكر الشيخ ومن تبعه الصورة الثالثة، جازمين بالقبول فيها، لأن الاستناد إلى السبب يقطع احتمال الوعد والتساهل والتسامح(11)، وتردد المحققوتبعه العلامة بين القبول هنا لما ذكر وعدم القبول لما ذكره الشيخ وجهاً لما لو لم يذكر السبب فلا يقبل وهو اعتياد التسامح بمثله(12). ومن هنا فقد أشكل في الفرق بين صورتي ذكر السبب وعدم ذكره، فإن كان المانع من التسامح هو العدالة في الشاهد، فالمفروض وجودها في الصورة الأخيرة أيضاً، فالواجب إما القبول في كلتيهما أو الرد كذلك، لكن الأول بعيد بل لم يقل به أحد، فيتعين الثاني.
قال في (الرياض): والتحقيق أن يقال: إن هذه المراتب خالية عن النص، كما ذكره الحلي متردداً به فيها بعد أن نقلها عن المبسوط، فينبغي الرجوع إلى مقتضى الاصول، وهو ما قدّمناه من اعتبار علم الفرع بشهادة الأصل، من دون فرق بين الصور المتقدمة، حتى لو فرض عدمه في صورة الاسترعاء وإن بعدباحتمال إرادة الأصل منه المزاح ونحوه، لم يجز أداء الشهادة على شهادته، ولو فرض حصوله في الصورة الرابعة التي هي عندهم أدونها جاز بل وجب. وبالجملة: لابدّ من العلم بشهادة الأصل، فحيثما حصل تبع وحيث لا فلا.
وإلى هذا يشير كلام الفاضل المقداد في الشرح حيث قال بعد أن نقل من الماتن التردد في المرتبة الثالثة: والأجود أنه إن حصلت قرينة دالّة على عدم الجزم والتسامح، قبلت، وإن حصلت قرينة على خلافه كمزاح أو خصومة، لم تقبل(13).
وأظهر منه كلام الأردبيلي في (مجمع الفائدة)، فإنه قال بعد ذكر التردد ووجهه: إن الأقوى أنه إن تيقن عدم التسامح صار متحملاً وإلا فلا(14)(15).
وفي (الكفاية) في المرتبة الثالثة: ولو فرض أن الفرع يجوز المساهلة المذكورة على الأصل، لم يكن له أن يشهد عليه. وقال في الرابعة: ولو فرض انتفاء الاحتمالين كان له الشهادة(16).
قلت: إن الملاك هو يقين الفرع كما ذكروا، وذلك يحصل بسماعه الشهادة من الأصل مع الإرادة الجدّية منه، لأن لفظة «أشهد» موضوعة للشهادة وظاهرة فيه، من دون حاجة إلى قرينة أو شيء آخر، وهذا الظاهر محكّم في كلّ مورد، لاسيما في كلمات العدول من الناس الذين يعلمون بترتب الآثار على كلماتهم، واستعمال اللفظ في معناه الموضوع له الظاهر فيه لا يحتاج إلى قرينة كما في كلمات بعضهم، والعقلاء العدول لا يتسامحون في مثل هذه المواضع أصلاً، وكيف يتصور أن يتسامح عادل فيشهد بشيء لا عن إرادة جدّية مع علمه بترتب الآثار الشرعية على الكلام الصادر منه؟
وعلى هذا الأساس يؤخذ الإنسان بما أقرّ به، فإنه ليس من عادتهم المزاح والمسامحة في مقام الإقرار.
فالميزان أن يصدق على ما قاله الأصل وسمعه الفرع عنوان «الشهادة» عند العرف، فيكون الأصل شاهداً والسامع متحملاً لتلك الشهادة… والشهادة على الشهادة مقبولة في كلّ مورد صدق فيه هذا العنوان عند أهل العرف.
فظهر أنه لا حاجة إلى أن يقول في صورة الاسترعاء: «أشهدني فلان على شهادته» وفي صورة سماعه عند الحاكم «أشهد أن فلاناً…» وفي صورة السماع لا عند الحاكم: «أشهد أن فلاناً.. بسبب كذا…» وإن لم تكن عبارة المحقق ظاهرة في وجوب الأداء عليه كذلك، لكن في (المسالك) التصريح بذلك حيث قال: «يجب على الفرع عند أداء الشهادة أن يبين جهة التحمّل، لأن الغالب على الناس الجهل بطريق التحمل، فربما استند إلى سبب لا يجوز التحمّل به، فإذا ذكر السبب زال الريب، وللإختلاف في المراتب كما عرفت، فربما أطلق الشهادة وكانت مستندة إلى وجه يجوز عنده لا عند الحاكم…»(17).
وفيه: مضافاً إلى عدم الدليل عليه بل مقتضى إطلاق النصوص خلافه إنه إذا كان كذلك، لزم على الشاهد على وقوع البيع أو الطلاق مثلاً العلم بجميع أحكام البيع أو الطلاق والإدلاء بها لدى الشهادة، وهذا مما لا يقول به أحد.

(1) شرائع الإسلام 4 : 139.
(2) المبسوط في فقه الإماميّة 8 : 231 ـ 232.
(3) رياض المسائل 15 : 410.
(4) كفاية الأحكام 2 : 778 ـ 779.
(5) مسالك الأفهام 14 : 273 ، ايضاح الفوائد 4 : 445.
(6) جواهر الكلام 41 : 195.
(7) شرائع الإسلام 4 : 139.
(8) كفاية الأحكام 2 : 779.
(9) جواهر الكلام 41 : 196.
(10) شرائع الإسلام 4 : 139.
(11) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 231 ، الدروس 2 : 142 ، مسالك الأفهام 14 : 274.
(12) قواعد الأحكام 3 : 504.
(13) التنقيح الرائع 4 : 320.
(14) مجمع الفائدة والبرهان 12 : 478.
(15) رياض المسائل 15 : 412.
(16) كفاية الأحكام 2 : 779.
(17) مسالك الأفهام 14 : 277.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *