الثانية: في ثبوت الوقف و النكاح بالإستفاضة

المسألة الثانية

(في ثبوت الوقف والنكاح بالإستفاضة)

قال المحقق: «الوقف والنكاح يثبت بالإستفاضة، أما على ما قلناه، فلا ريب فيه، وأما على الإستفاضة المفيدة لغالب الظن فن الوقف للتأبيد، فلو لم تسمع فيه الإستفاضة لبطلت الوقوف مع امتداد الأوقات وفناء الشهود، وأما النكاح، فنا نقضي بأن خديجة عليها السلام زوجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما نقضي بأنها أُم فاطمة عليها السلام، ولو قيل: إن الزوجية تثبت بالتواتر كان لنا أن نقول: التواتر لا يثمر إلا إذا استند السماع إلى المحسوس، ومن المعلوم أن المخبرين لم يخبروا عن مشاهدة العقد ولا عن إقرار النبيغ ، بل نقل الطبقات مستند إلى الإستفاضة التي هي مستند الطبقة الاولى، ولعلّ هذا أشبه بالصواب»(1).
أقول: قوله «أما على ما قلناه فلا ريب فيه» يدلّ كما في (المسالك) على أن مختاره اشتراط العلم في الشهادة بالإستفاضة ولم يصرح به فيما سبق، وإنما تردد فيه(2)، فعلى هذا المبنى، لا ريب في ثبوت الوقف والنكاح بها، لأنه ليس وراء العلم شيء.
وأما بناء على الإستفاضة المفيدة لغالب الظن فيثبتان أيضاً، أما الوقف فإنه للتأبيد، فلو لم يجز الشهادة فيه بالإستفاضة أدّى إلى بطلان الوقوف، لأن شهود الوقف لا يبقون، والشهادة الثالثة لا تسمع، وأما النكاح فنا نقضي بأن خديجة عليها السلام زوجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يثبت ذلك إلا بالإستفاضة، لأنا ما شاهدناهم.
قال في (المسالك): واعترض على الأوّل: بأن الشهادة بدون العلم منهي عنها، فتخصيص ذلك بالوقف تحصيلاً لمصلحة ثبوته، ليس بأولى من تخصيص النهي عن سماع الشهادة الثالثة بالوقف لهذه المصلحة، بل هذا التخصيص أولى، لأنه لا مانع منه عقلاً، بخلاف الشهادة بمجرد الظن.
قال: وأجاب عنه المصنف بأن المانع من سماع الشهادة الثالثة النقل والإجماع، فلم يكن معارضتها بالتخصيص، بخلاف الشهادة بمجرد الظن، فإنه لا إجماع على منعها، بل الأكثر على تجويزها، ويمنع من كون العقل دالاً على النهي عن ذلك، لأن أكثر الأحكام الشرعيّة مبناها على الظن(3).
واعترض على الثاني: بما ذكره المحقق نفسه وأجاب عنه بقوله: ولو قيل(4)…
قلت: لم يتعرّض المحقق في العبارة للشهادة، بل يقول: يثبت… وهو ظاهر في الثبوت لدى الحاكم، أي: إن الحاكم له الحكم استناداً إلى الإستفاضة في أُمور ذكرها المحقق نفسه في كتاب القضاء، وإن الوجه الذي ذكره هنا للوقف يأتي في النسب أيضاً.
والأولى أن نستدلّ للقبول بالسيرة غير المردوعة، لعدم جواز الرجوع إلى الظن المجرد في باب القضاء والشهادات، إلا أن الظن الذي قامت السيرة على قبوله والاستناد إليه يسدّ مسد العلم، ويكون المراد من: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»(5) هو الحكم بمطلق الحجّة، لا خصوص البينة واليمين.
وأما قضاؤنا بأن خديجة عليها السلام زوجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو عن علم لا عن ظن، للقرائن الخارجية الموجبة لليقين، بل في (المسالك) تحقق التواتر فيه، فإنه بعد أن ذكر جواب المحقق قال: وفيه نظر، لأن الطبقة الاولى السامعين للعقد المشاهدين للمتعاقدين، بالغون حدّ التواتر وزيادة، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ذلك الوقف من أعلى قريش وعمّه أبو طالب عليه السلام المتولي لتزويجه كان حينئذ رئيس بني هاشم وشيخهم ومن إليه مرجع قريش، وخديجة عليها السلام كانت من أجلاّء بيوتات قريش، والقصة في تزويجها مشهورة وخطبة أبي طالب في المسجد الحرام بمجمع قريش ممن يزيد عن العدد المعتبر في التواتر، فدعوى معلومية عدم استناد الطبقة الاولى إلى مشاهدة العقد وسماعه، ظاهرة المنع، وإنما الظاهر كون ذلك معلوماً بالتواتر، لاجتماع شرائطه، فلا يتم الاستدلال به على هذا المطلوب(6).
وناقشه في (الجواهر) بأن جلالتهم وشهرتهم وغير ذلك لا تقتضي معلومية مشاهدة العقد لعدد التواتر، كما نرى الآن بالوجدان في تزويج بنات السلاطين وأولادهم، لا يبلغ المشاهدون للفظ العقد فيه ذلك، نعم يستفيض ويشتهر ذلك على وجه يحصل العلم بذلك، وإن لم يكن بطريق التواتر، فلا أقل من احتمال كونه كذلك، فدعوى معلومية التواتر واضحة المنع أيضاً، ولعلّ الأولى دعوى حصول العلم من الإستفاضة المزبورة وإن لم يحرز اجتماع شرائط التواتر فيها، نحو غيرها من أفراد الإستفاضة في البلدان والملوك وغير ذلك(7).
أقول: إلا أن ما ذكره الشهيد هو الأظهر، فقد كانوا في ذلك الزمان يجرون الصيغة بصورة علنية وعند جميع الحاضرين، لا في مجلس لا يشهده أحد ولا يحضره غير العاقدين كما يتفق كثيراً في زماننا، لكن بلوغ الحاضرين عدد التواتر في الطبقة الاولى لا يحقق التواتر لنا، لتوقف تحققه على بلوغ عدد الطبقة الثانية الناقلين للخبر عن الاولى للعدد المذكور، وهكذا الثالثة فما بعد.
فالأولى أن يقال بالتواتر بالنسبة إلى الطبقة الاولى، وبحصول العلم بالإستفاضة فيما بعدها من الطبقات.
وكيف كان، فإن الإستفاضة يثبت بها النكاح والوقف، للسّيرة غير المردوعة من قبل الشارع. والله العالم.

(1) شرائع الإسلام 4 : 134.
(2) مسالك الأفهام 14 : 240.
(3) مسالك الأفهام 14 : 239.
(4) مسالك الأفهام 14 : 238 .
(5) وسائل الشيعة 27 : 232/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 2.
(6) مسالك الأفهام 14 : 240.
(7) جواهر الكلام 41 : 148.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *