حدّ توبة القاذف

حدّ توبة القاذف
إنما الكلام في حدّ التوبة ومعنى الإصلاح المذكور في الآية.
أما «التوبة» فالآية ساكتة عن بيان حدّها، وكلمات الأصحاب مختلفة فيه:
قال المحقق: «وحد التوبة أن يكذب نفسه وإن كان صادقاً ويوري باطناً. وقيل: يكذبها إن كان كاذباً، ويخطئها في الملأ إن كان صادقاً. والأول مروي»(1).
ولننظر في أخبار المسألة:
1 ـ أبو الصباح الكناني قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن القاذف بعد ما يقام عليه الحدّ، ما توبته؟ قال: يكذب نفسه. قلت: أرأيت إن أكذب نفسه وتاب، أتقبل شهادته؟ قال: نعم»(2).
2 ـ القاسم بن سليمان قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدّاً ثم يتوب ولا يعلم منه إلاّ خير، أتجوز شهادته؟ قال: نعم، ما يقال عندكم؟ قلت: يقولون توبته فيما بينه وبين الله، ولا تقبل شهادته أبداً، فقال: بئس ما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب ولم يعلم منه إلا خير جازت شهادته»(3).
3 ـ السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: ليس يصيب أحد حدّاً فيقام عليه ثم يتوب إلا جازت شهادته»(4).
4 ـ يونس عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته بعد الحدّ إذا تاب؟ قال: نعم. قلت: وما توبته؟ قال: يجي فيكذب نفسه عند الإمام ويقول: قد افتريت على فلانة، ويتوب مما قال»(5).
5 ـ الكناني: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن القاذف إذا أكذب نفسه وتاب، أتقبل شهادته؟ قال: نعم»(6).
6 ـ عبد الله بن سنان: «سألت أبا عبد الله عن المحدود إذا تاب أتقبل شهادته؟ فقال: إذا تاب، وتوبته أن يرجع فيما قال ويكذب نفسه عند الإمام وعند المسلمين، فإذا فعل فإن على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك»(7).
إن هذه الأخبار تدل على أن توبته (إكذاب نفسه) كما عليه المحقق تبعاً للصدوقين(8)والعماني(9) ونهاية الشيخ(10) والشهيدين(11) وغيرهم(12)، بل قيل إنه المشهور(13)، بل ادعي عليه الإجماع(14)، ولا ريب أن هذا الإكذاب يكون عقيب الندم فيما بينه وبين الله عز وجل، وأنه يعتبر ـ بعد حمل مطلقها على مقيدها ـ أن يكون عند الإمام وعند المسلمين، وفاقاً للجماعة، بل عن بعضهم عدم الخلاف في اعتبار ذلك(15)، فما في (الجواهر) من أن الظاهر إرادة إجهاره بذلك لا كونه شرطاً في التوبة(16)، خلاف ظاهر الأخبار، بل الظاهر منها عدم تحقق التوبة المؤثرة لقبول الشهادة إلا بذلك، كما لا يخفى على من لاحظها، لا سيما صحيحة ابن سنان حيث يسأل عن المحدود إذا تاب أتقبل شهادته؟ فقال الإمام عليه السلام: «نعم إذا تاب، وتوبته أن يرجع ممّا قال ويكذب نفسه عند الإمام وعند المسلمين، فإذا فعل فإن على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك».
وقد ظهر بذلك ضعف القول الآخر، والقائل به الشيخ في (المبسوط)(17) وابن إدريس(18) وابن سعيد(19) والعلامة(20) فإنه اجتهاد في مقابلة نصوص المسألة ، بل في (المسالك) إنه تعريض بقذف جديد غير القدف الأول(21).
كما ظهر من خبر القاسم بن سليمان خلاف العامة في المسألة، حيث يقولون بأن توبته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا تقبل شهادته أبدا(22).
ومن هنا حمل على التقية ما رواه السكوني: «عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام قال: ليس أحد يصيب حدّاً فيقام عليه ثم يتوب إلا جازت شهادته إلا القاذف، فإنه لا تقبل شهادته، إن توبته فيما كان بينه وبين الله تعالى»(23).
إلا أن حمله على التقية من البعد بمكان، لأنه عن أمير المؤمنين ولم يكن عليه السلام في تقية في بيان المسائل الشرعية الفرعية، وأبعد منه احتمال أن نسبة الإمام الصادق عليه السلام ذلك إلى جدّه عليه السلام هي من باب التقية…(24).
فالصحيح في الجواب عنه هو: إن الإستثناء المزبور قد اختص به بعض نسخ (التهذيب)، وقد خلا عنه البعض الآخر وكتاب (الكافي) الذي تقرّر كونه أضبط من التهذيب، فيتقدم الخبر الخالي عنه لما ذكرنا، وإن كان الأصل في دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة هو عدم الزيادة.
هذا كلّه في حد التوبة في هذا المقام.
وأما «الإصلاح» فهل هو شرط زيادة عن التوبة؟ وما معناه؟

(1) شرائع الإسلام 4 : 128.
(2) وسائل الشيعة 27 : 383/1 . كتاب الشهادات ، الباب 36.
(3) وسائل الشيعة 27 : 383/2 . كتاب الشهادات ، الباب 36.
(4) وسائل الشيعة 27 : 384/3 . كتاب الشهادات ، الباب 36.
(5) وسائل الشيعة 27 : 384/4 . كتاب الشهادات ، الباب 36.
(6) وسائل الشيعة 27 : 384/5 . كتاب الشهادات ، الباب 36.
(7) وسائل الشيعة 27 : 385/1 . كتاب الشهادات ، الباب 37.
(8) المقنع : 397 398.
(9) مختلف الشيعة 8 : 479.
(10) النهاية : 727.
(11) الدروس 2 : 126 ، مسالك الأفهام 14 : 173.
(12) إصباح الشيعة : 529 ، التنقيح الرائع 4 : 293 294 ، المهذب لابن البراج 2 : 549.
(13) رياض المسائل 15 : 276.
(14) غنية النزوع 2 : 440.
(15) إيضاح الفوائد 4 : 424 ، التنقيح الرائع 4 : 294 ، غاية المرام : 279 280 ، رياض المسائل 15 : 278277.
(16) جواهر الكلام 41 : 40.
(17) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 179 .
(18) السرائر 3 : 526.
(19) الجامع للشرائع : 540.
(20) مختلف الشيعة 8 : 480.
(21) مسالك الأفهام 14 : 175.
(22) السنن الكبرى للبيهقي 10 : 156 ، المحلّى لابن حزم 9 : 431 ، بداية المجتهد 2 : 443 ، المغني لابن قدامة 2 : 75 76.
(23) وسائل الشيعة 27 : 384/6 . كتاب الشهادات ، الباب 36.
(24) جواهر الكلام 41 : 37.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *