البحث في ما يزيل العدالة

البحث في ما يزيل العدالة
أقول: هنا جهات من البحث:
فالاولى: هل المعاصي منقسمة في الشرع إلى كبائر وصغائر؟
لا مجال لإنكار أن طائفة من المعاصي كبائر، ويدلّ على ذلك من الكتاب قوله تعالى: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)(1). والآية الكريمة: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا)(2). ومن السنة أخبار كثيرة يأتي بعضها.
والثانية: في معنى الآية الاولى من الآيتين المذكورتين، فإن ظاهرها التكفير للصغيرة باجتناب الكبيرة حتى مع عدم التوبة، وهذا يوجب الجرأة على المعصية، إذ الإنسان يتعمّد غالباً المعصية إن أمن العذاب، مع أن الله عز وجل لا يأذن بالمعصية بالضرورة.
كما أن ما ورد عنهم عليهم السلام من أنه «لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الإستغفار»(3) ظاهر في عدم المؤاخذة على الصغيرة التي لا يكون معها إصرار(4).
قال المحدّث الكاشاني بتفسير الآية: «وفي المجمع نسب إلى أصحابنا أن المعاصي كلّها كبيرة، لكن بعضها أكبر من بعض، وليس في الذنوب صغيرة، وإنما يكون صغيراً بالإضافة إلى ما هو أكبر واستحقاق العقاب عليه أكثر»(5).
قيل: وتوفيقه مع الآية أن يقال: من عنّ له أمران ودعت نفسه إليهما بحيث لا يتمالك، فكفّها عن أكبرهما، كفّر عنه ما ارتكبه، لما استحق عليه من الثواب على اجتناب الأكبر، كما إذا تيسر له النظر بشهوة والتقبيل، فاكتفى بالنظر عن التقبيل. ولعلّ هذا مما يتفاوت أيضاً باعتبار الأشخاص والأحوال، فإن حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، ويؤاخذ المختار بما يعفى عن المضطرّين.
أقول: ظاهر الآية والأخبار الواردة في تفسيرها وتفسير الكبائر يعطي تمايز كلّ من الصغيرة والكبيرة عن صاحبتها، كما لا يخفى على من تأمّل فيها، وما نسبه في المجمع إلى أصحابنا لا مستند له، وقول الموفق يعطي أن من قدر على قتال أحد فقطع أطرافه كان قطع أطرافه مكفّراً، وهو كما ترى، فلابدّ لكلامه وكلام الأصحاب من توجيه حتى يوافقا الظواهر»(6).
وفي (الميزان) بعد أن نفى الريب في دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر، وأن الصغائر سميت في الآية بالسيئات، وأن الآية في مقام الإمتنان جعل مساق الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة التي بعد غفران الذنوب، قال: «هي تقرع أسماع المؤمنين بعناية لطيفة إلَهية أنهم إن اجتنبوا البعض من المعاصي كفّر عنهم البعض الآخر، فليس إغراء على ارتكاب المعاصي الصغار، فإن ذلك لا معنى له، لأن الآية تدعو إلى ترك الكبائر بلا شك، وارتكاب الصغيرة من جهة أنها صغيرة لا يعبأ بها ويتهاون في أمرها، يعود مصداقاً من مصاديق الطغيان والاستهانة بأمر الله سبحانه، وهذا من أكبر الكبائر، بل الآية تعد تكفير السيئات من جهة أنها سيئات لا يخلو الإنسان المخلوق على الضعف المبني على الجهالة من ارتكابها بغلبة الجهل والهوى عليه»(7).
قلت: إن الألطاف الإلَهية بالنسبة إلى المؤمنين في باب العفو والمغفرة تتجلّى في التوبة، وفي الشفاعة، وفي إذهاب الحسنات للسيئات، وفي غفران الله سبحانه الذنوب لمن يشاء إلا الشرك به عز وجل… لكن جعل مساق الآية الكريمة: (إِن تَجْتَنِبُواْ…) مساق ما يدلّ على التوبة، خلاف الظاهر، للفرق بين التوبة ومدلول الآية، لأن سدّ باب التوبة يوجب اليأس والقنوط من رحمة الله، والإنسان إذا يئس توغّل في المعاصي وأفرط في المخالفة، بخلاف فتح هذا الباب، فإنه لا يسبب ذلك، أما مدلول الآية الشريفة فظاهره الوعد بتكفير الصغائر وعدم المؤاخذة عليها دائماً، بشرط اجتناب الكبائر.
فالجواب المذكور غير مقنع، وتفصيل الكلام في بيان معنى الآية الكريمة، بحيث يساعده ظاهرها وينطبق على سائر الأدلّة، له مجال آخر.
والثالثة: لو اشتبهت عليه المعصية، فلم يعلم هل هي كبيرة أو صغيرة، فإن مقتضى حكم العقل الإجتناب عنها، لأن العقل يحكم بلزوم معاملة كلّ معصية معاملة الكبيرة المؤاخذ عليها حتى لا يقع في المعصية الكبيرة في الواقع، وذلك، لأن البيان الشرعي على وجوب اجتناب الكبائر واصل، والعقل يرشد إلى الإطاعة والإمتثال، فإذا خالف استحق العقاب، لعدم كونه من العقاب بلا بيان.
وهل يسقط عن العدالة بارتكاب المشكوك في كونها معصية كبيرة؟
ظاهر الآية: (إِن تَجْتَنِبُواْ…) وجوب ترك ذات المعصية الكبيرة لا، الترك بعنوان الكبيرة، ولكن إذا كانت العدالة هي الملكة، فإن الملكة تمنع من ارتكاب الكبيرة المعلوم كونها كبيرة، وعلى هذا، فارتكاب المعصية المحتمل كونها كبيرة لا يضرّ بالعدالة.
الرابعة: إن تشخيص الكبيرة من غيرها لا يكون إلا بالأدلّة من الكتاب والسنّة المعتبرة، إذ لا سبيل لعقولنا إلى ذلك، لجهلنا بملاكات الأحكام الشرعية ودرجات القبح في المحرمات.
وقد اختلف علماؤنا في معنى «الكبيرة» على أقوال، وذكر الشيخ الأنصاري خمسة أمور يثبت بها كون المعصية كبيرة(8)، لكن قال السبزواري في (الكفاية): «والأشهر الأقوى أن الكبيرة كلّ ذنب توعّد عليه بالوعيد في الكتاب المجيد، وفي حصره خلاف»(9).
قلت: قد عقد في الوسائل باباً لتعيين الكبائر التي يجب اجتنابها، ووردت الضابطة المذكورة في بعض تلك الأخبار، واشتمل بعضها على الإستشهاد بآيات الكتاب، ولنذكر واحداً منها تيمّناً:
عن عبد العظيم الحسني، عن أبي جعفر الثاني، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام قال: «دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد الله عليه السلام، فلمّا سلّم وجلس تلا هذه الآية: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ)(10) ثم أمسك، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ما أسكتك؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله عز وجل، فقال: نعم، يا عمرو.
أكبر الكبائر الإشراك بالله، يقول الله: (مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ).
وبعده اليأس من روح الله، لأن الله عزوجل يقول: (لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(11).
ثم الأمن من مكر الله، لأن الله عزّوجلّ يقول: (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)(12).
ومنها عقوق الوالدين، لأن الله سبحانه جعل العاقّ جبّاراً شقيّاً.
وقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، لأن الله عز وجل يقول: (فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا)(13) إلى آخر الآية.
وقذف المحصنة، لأن الله عزّوجلّ يقول: (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(14).
وأكل مال اليتيم، لأن الله عزّوجلّ يقول: (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(15).
والفرار من الزحف، لأن الله عز وجل يقول: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَال أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة فَقَدْ بَاء بِغَضَب مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(16).
وأكل الربا، لأن الله عزّوجلّ يقول: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)(17).
والسحر، لأن الله عزّوجلّ يقول: (وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق)(18).
والزنا، لأن الله عزّوجلّ يقول: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً)(19).
واليمين الغموس الفاجرة، لأن الله عزّوجلّ يقول: (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ)(20).
والغلول، لأن الله عزّوجلّ يقول: (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(21).
ومنع الزكاة المفروضة، لأن الله عزّوجلّ يقول: (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)(22).
وشهادة الزور وكتمان الشهادة، لأن الله عزّوجلّ يقول: (وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)(23).
وشرب الخمر، لأن الله عزّوجلّ نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان.
وترك الصّلاة متعمداً أو شيئاً مما فرض الله عزوجل، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: من ترك الصلاة متعمداً فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله.
ونقض العهد وقطيعة الرحم، لأن الله عزوجل يقول: (لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(24).
قال: فخرج عمرو وله صراخ من بكائه وهو يقول: هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم»(25).
فالكبيرة كلّ ذنب توعّد عليه في الكتاب، أو عدّ من الكبائر في السنّة.

(1) سورة النساء 4 : 31.
(2) سورة الكهف 18 : 49.
(3) وسائل الشيعة 15 : 337/3 . أبواب جهاد النفس ، الباب 48.
(4) وإليه ذهب جمع من علمائنا كالبهائي والمجلسي وصاحب الجواهر قدست أسرارهم.
(5) مجمع البيان 2 : 38.
(6) الصافي في تفسير القرآن 1 : 412.
(7) الميزان في تفسير القرآن 4 : 325.
(8) كتاب المكاسب 3 : 186 188 . نشر اسماعيليان.
(9) كفاية الفقه 2 : 745.
(10) سورة النجم 53 : 32.
(11) سورة يوسف 12 : 87.
(12) سورة الأعراف 7 : 99.
(13) سورة النساء 4 : 93.
(14) سورة النور 24 : 23.
(15) سورة النساء 4 : 10.
(16) سورة الأنفال 8 : 16.
(17) سورة البقرة 2 : 275.
(18) سورة البقرة 2 : 102.
(19) سورة الفرقان 25 : 69 68.
(20) سورة آل عمران 3 : 77.
(21) سورة آل عمران 3 : 161.
(22) سورة التوبة 9 : 35.
(23) سورة البقرة 2 : 283.
(24) سورة الرعد 13 : 25.
(25) وسائل الشيعة 15 : 318/2 . أبواب جهاد النفس ، الباب 46.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *