هل تقبل شهادة الذمي على الذمي؟

هل تقبل شهادة الذمي على الذمي؟
قال المحقّق: «وهل تقبل شهادة الذمي على الذمي؟ قيل: لا وكذا لا تقبل على غير الذمي، وقيل: تقبل شهادة كلّ ملّة على ملّتهم، وهو استناد إلى رواية سماعة، والمنع أشبه»(1).
أقول: هنا أقوال:
أحدها: عدم قبول شهادة الذمي على الذمي وغير الذمي، في الوصية وغير الوصية، والقائل به المشهور كما في (الجواهر)، بل عن جماعة الإجماع على عدم قبولها على المسلم في غير الوصية(2).
والثاني: قبول شهادة أهل كلّ ملّة على ملّتهم، والقائل به الشيخ في محكي (الخلاف)(3) و (النهاية)(4)، بل عن الأول نسبته إلى أصحابنا ولكن مع اشتراط الترافع إلينا(5)، لرواية سماعة: قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة أهل الملة؟ قال فقال: لا تجوز إلا على ملّتهم»(6).
وعن كاشف اللثام: «هو قوي، إلزاماً لأهل كلّ ملّة بما تعتقده، وإن لم يثبت عندنا، لفسق الشاهد وظلمه عندنا»(7).
والثالث: قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض وإن اختلف الملّتان مع العدالة في دينهم. والقائل به أبو علي الإسكافي(8) لرواية ضريس الكناسي(9)، ورواية الحلبي ومحمد بن مسلم(10) المذكورتين سابقاً.
وعن كاشف اللثام: «وهو قوي إذا كان الشاهد ذمياً والمشهود عليه حربياً، كما هو ظاهر الخبر، لصحته، ولأن علينا رعاية الذمة، فلا علينا أن نحكم لهم بشهادتهم على أهل الحرب»(11).
واختار في (الجواهر) القول الأوّل، وفاقاً للمحقق والمشهور، لأنه أشبه باُصول المذهب وقواعده التي منها معلومية اشتراط الإسلام والإيمان والعدالة في الشاهد، المعلوم انتفاؤها إجماعاً في الفرض(12).
وقد أجاب عن خبري الحلبي والكناسي بأنهما مع عدم دلالتهما على تمام المدّعى، بل الثاني منهما لا يوافق إطلاق أبي علي محمولان على إرادة بيان قبول خصوص شهادتهم على المسلم في خصوص الوصية كما صرح به في الخبر الثاني، بل لعلّ التعليل في الأوّل وهو قوله عليه السلام: إنه لا يصلح ذهاب حق أحديرشد إلى ذلك، بقرينة وجوده في نصوص قبول شهادتهم في الوصية(13).
وعن رواية سماعة المذكورة(14) بوجوه:
أحدها: كونها موافقة للمحكي عن أبي حنيفة والثوري.
والثاني: عدم العمل بها إلاّ من الشيخ.
والثالث: إن مقتضى المحكي عن الشيخ ضعفها عنده، لأن في سندها العبيدي وقد قال: إنه ضعيف، استثناه أبو جعفر ابن بابويه من رجال نوادر الحكمة وقال: إنه لا أروي ما يختص بروايته(15).
قال: مع أن المحكي عن مبسوطه أيضاً اختيار المنع مطلقاً(16)، بل قد سمعت اشتراطه في محكي الخلاف بالترافع إلينا(17)، وقد قال في محكي المختلف: إنما نقول به لأنه إذا ترافعوا إلينا وعدّلوا الشهود عندهم، فإن الأولى هنا القبول(18)، بل عن المقداد في التنقيح الميل إليه أيضاً بالمعنى المزبور(19)، قال بعد أن حكى عن الخلاف ما سمعت: وهذا في الحقيقة قضاء بالإقرار، لما تقدم أنه إذا أقرّ الخصم بعدالة الشاهد حكم عليه، وقد سمعت ما في كشف اللثام(20).
أقول: الكفار على خمسة أقسام:
1 ـ غير أهل الكتاب.
2 ـ 3 ـ أهل الكتاب، وهؤلاء ينقسمون إلى أهل الذمة، وغير أهل الذمة وهم الحربيون. فهذه ثلاثة أقسام
4 ـ الكفار المنتحلون للإسلام، كالمجبرة والمجسمة ومن أنكر شيئاً من ضروريات الدين.
5 ـ النواصب.
والدليل على ما ذهب إليه الشيخ من قبول شهادة أهل كلّ ملّة على ملّتهم غير منحصر بخبر سماعة المذكور، وإن كانت عبارة المحقق موهمة لذلك(21)، فيدلّ عليه ـ مضافاً إليه ـ خبرا أبي عبيدة الحذاء(22) وضريس الكناسي(23).
وقد استدلّ الشيخ نفسه بحديث رواه عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال: «وروى ابن غنم قال: سألت معاذ بن جبل عن شهادة اليهود على النصارى، فقال سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: لا تقبل شهادة أهل دين على غير أهل دينهم إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم»(24).
قال: «وهذا الذي اخترناه، والوجه فيه إذا اختاروا الترافع إلينا، فأمّا إن لم يختاروا فلا يلزمهم ذلك»(25).
وليست عبارته المذكورة تفصيلاً في المسألة كما قد يتوهم، والحديث المذكور مطلق يعم الشهادة «له» و «عليه».
ولعل المحقق والقوم لم يعتبروا هذا الحديث، من جهة أن راويه عامي، وإن كان مروياً في بعض كتب الخاصة ومورداً للاستناد، مثل حديث «على اليد…»(26). ونحوه، ولعلّهم حملوه على التقية لموافقته لرأي كثير من العامة.
وكيف كان، ففي الأخبار الثلاثة المذكورة غنىً وكفاية، والوجه هو قبول شهادة الذمي من كلّ ملّة على أهل ملّته، سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً.
وأما الكفار المنتحلون للإسلام، فإن صدق على كلّ طائفة منهم أنهم أهل ملّة في مقابل ملّة الإسلام، شملتهم الأدلّة وإلا فلا.
وأما الكافر الحربي، فقد عرفت عدم قبول شهادته كغير أهل الكتاب من الكفار.
ثم إن جماعة من الأصحاب استدلّوا لما ذهب إليه الشيخ بقاعدة الإلزام(27)وأضاف المقداد في (التنقيح) قاعدة الإقرار(28) والوجه في التمسك بقاعدة الإلزام في هذا المقام هو عدم اختصاص الأخبار الواردة في هذه القاعدة بالعامة، بل إنها تشمل غير المسلمين أيضاً، فمن أخبار القاعدة: قوله عليه السلام: «من كان يدين بدين قوم لزمته أحكامهم»(29).
وعن عبد الله بن طاوس قال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إن لي ابن أخ زوّجته ابنتي، وهو يشرب الشراب ويكثر ذكر الطلاق، فقال: إن كان من إخوانك فلا شيء عليه، وإن كان من هؤلاء فأبنها منه فإنه عنى الفراق، قال قلت: أليس قد روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إيّاكم والمطلقات ثلاثاً في مجلس فإنهن ذوات الأزواج؟ فقال: ذلك من إخوانكم لا من هؤلاء، إنه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم»(30).
وعن علي بن جعفر «أنه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام عن يهودي أو نصراني طلّق تطليقة ثم أسلم هو وأمرأته، ما حالهما؟ قال: ينكحها نكاحاً جديداً. قلت: فإن طلّقها بعد إسلامه تطليقة أو تطليقتين، هل تعتدّ بما كان طلّقها قبل إسلامها؟ قال: لا تعتدّ بذلك»(31).
فالحاصل: عدم اختصاص المطلب بالعامّة.
وعلى هذا، فإن اختص الإلزام بموارد الأخبار فهو، وإن كان مفادها هو القبول مطلقاً تمّ الإستدلال بالقاعدة في محلّ الكلام، لكن حديث معاذ بن جبل صالح للإستدلال بمفهومه على القبول في أهل دينهم، إلاّ أنه لا يخلو من كلام كما تقدم.
ثم إن معنى الإلزام، هو جعل هذا الطلاق مثلاً صحيحاً بالنسبة إلى المسلمين، فيجوز للمسلم نكاح هذه المرأة من باب الإلزام، وهذا شيء يستبعده الذهن، لأن المفروض كونها زوجة له، لأن لكلّ قوم نكاحاً، والطلاق يشترط فيه عند المسلمين شروط هي مفقودة بحسب الفرض، فكيف يكون الطلاق الباطل مجوّزاً لنكاح المسلم تلك المرأة؟
فقيل: إن هذا نظير تصرّف ذي الخيار في مورد الخيار، ففي الآن الذي يعقد عليها المؤمن تكون مطلّقة طلاقاً صحيحاً من زوجها فيصح له نكاحها، وأما قبل ذلك فهي باقية على الزوجية للمطلّق، نظير تصرف ذي الخيار حيث يكون الشي في ذلك الوقت ملكاً له.
لكن هذا يخالف الرواية التي جاء فيها إنه : «ذكر عند الرضا عليه السلام بعض العلويين ممن كان ينتقصه، فقال عليه السلام: أما إنه مقيم على حرام، قلت: جعلت فداك، وكيف وهي امرأته؟ قال عليه السلام: لأنه قد طلّقها، قلت: كيف طلّقها؟ قال: طلقها وذاك دينه فحرمت عليه»(32).
أقول: والأمر بالنسبة إلى الكفار أسهل، لأنهم إذا عملوا بشرائط الذمّة يعاملون في أعمالهم معاملة الصحة، سواء كان طلاقاً أو غيره، فيكون نظير النجاسة في ثوب المصلّي، حيث أن العلم بها موجب لبطلان الصلاة، وإلا فهي صحيحة وإن كانت على ثوبه. وهنا، لما لم يكن المطلق عالماً باشتراط العدلين مثلاًيكون طلاقه صحيحاً ويترتب عليه الأثر.
هذا، وبناءاً على عدم قبول شهادتهم على أمثالهم، فهل تقبل لأمثالهم؟
قال العلاّمة في (المختلف): لا(33)، والشيخ يقول: نعم(34).
وفي (المستند): وظهر مما ذكرنا أنه لم تخرج من الأصل إلا صورة واحدة وهي شهادة أهل كلّ ملّة على أهل ملّته خاصة، وهل تقبل له؟ الظاهر: لا، للأصل. إلا إذا كانت عليه أيضاً فتسمع، لأن قبول الشهادة عليه بالدليل، وعدم قبولها له بالأصل، والدليل مقدّم على الأصل»(35).
قلت: الأظهر: إن «على» في أخبار الباب وكذا في قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ)(36) ليس بمعنى «الضرر» حتى لا تقبل في غيره، مع أن في كل مورد يوجد «عليه» يوجد «له»، لأن المفروض كون الطرفين من أهل ملة واحدة، اللهم إلاّ أن لا يكون طرف آخر، كما لو كان قد أوصى بصرف كذا من ماله على المعبد مثلاً، لكنه قليل.
نعم، لو شك في القبول، فالأصل عدمه، كما لا يخفى.

(1) شرائع الإسلام 4 : 126.
(2) جواهر الكلام 41 : 22.
(3) كتاب الخلاف 6 : 273 ، المسألة 22.
(4) النهاية : 334.
(5) جواهر الكلام 41 : 23 24.
(6) وسائل الشيعة 27 : 39/4 . كتاب الشهادات ، الباب 40.
(7) كشف اللثام 10 : 273.
(8) جواهر الكلام 41 : 22.
(9) وسائل الشيعة 19 : 309/1 . كتاب الوصايا ، الباب 20.
(10) وسائل الشيعة 19 : 310/3 . كتاب الوصايا ، الباب 20.
(11) كشف اللثام 10 : 273.
(12) جواهر الكلام 41 : 24.
(13) جواهر الكلام 41 : 23.
(14) وسائل الشيعة 19 : 311/5 . كتاب الوصايا ، الباب 20.
(15) الفهرست للطوسي : 402/612 . مكتبة المحقق الطباطبائي.
(16) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 187.
(17) الخلاف : 6/274 ، المسألة 22.
(18) مختلف الشيعة 8 : 506.
(19) التنقيح الرائع 4 : 288.
(20) جواهر الكلام 41 : 24.
(21) شرائع الإسلام 4 : 126.
(22) وسائل الشيعة 27 : 368/1 . كتاب الشهادات ، الباب 38.
(23) وسائل الشيعة 19 : 309/1 . كتاب الوصايا ، الباب 20.
(24) عوالي اللئالي 1 : 454/192 ، مستدرك الوسائل 17 : 437/4 ، المغني لابن قدامة 12 : 55 ، المجموع 20 : 226.
(25) كتاب الخلاف : 6/274.
(26) عوالي اللئالي 1 : 224/106 ، مسند أحمد : 5/8.
(27) مختلف الشيعة 8 : 506 ، كشف اللثام 10 : 273.
(28) التنقيح الرائع 4 : 288.
(29) وسائل الشيعة 22 : 74/10 . أبواب مقدمات الطلاق ، الباب 30.
(30) وسائل الشيعة 22 : 75/11 . أبواب مقدمات الطلاق ، الباب 30.
(31) وسائل الشيعة 22 : 169/1 . أبواب أقسام الطلاق ، الباب 31.
(32) وسائل الشيعة 22 : 72/2 . أبواب مقدمات الطلاق ، الباب 30.
(33) مختلف الشيعة 8 : 505 506.
(34) النهاية : 334.
(35) مستند الشيعة 18 : 35.
(36) سورة البقرة 2 : 143.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *