حكم ما لو ادّعيا ذلك ويدهما عليها مع البينة

حكم ما لو ادّعيا ذلك ويدهما عليها مع البينة:
قال المحقق: «ولو كانت يدهما على الدار وادّعى أحدهما الكلّ والآخر النصف، وأقام كلّ منهما بينة، كانت لمدّعي الكلّ، ولم يكن لمدعي النصف شيء، لأن بيّنة ذي اليد بما في يده غير مقبولة»(1).
أقول: وهذا هو الفرع الثالث في المسألة، وذلك أن يدّعي أحدهما كلّ الدار والآخر النصف، وهما واجدان للبينة وهي في يدهما لا في يد ثالث، فالمشهور على أن الدار كلّها لمدّعي الكلّ وأنه ليس لمدّعي النصف شيء منها، وذلك لأن المفروض خروج نصف الدار عن النزاع، فيكون النصف الذي بيد مدّعي الكلّ ملكاً له، لأنه مدّع بلا معارض بالنسبة إليه، وحيث أنه يدّعي النصف الآخر بيد خصمه، فهو بالنسبة إلى ذاك النصف خارج والخصم داخل، ومذهب المشهور تقديم بيّنة الخارج وسقوط بينة الداخل، فيكون النصف الثاني له كالأول، فالدار كلّها له ولم يكن لمدّعي النصف شيء…
نعم، لو لم يكن لمدّعي الكلّ بيّنة، كان القول قول مدّعي النصف مع يمينه، فإذا حلف أبقي النصف في يده، فتكون الدار بينهما نصفين…
هذا هو المشهور.
وعن ابن الجنيد: إنه يقتسمان الدار مع البينة وعدمها على طريق «العول»(2)فيجعل في مفروض المسألة لمدّعي الكلّ الثلثان ولمدّعي النصف الثلث، وقد فرض رحمه الله المسألة في ما لو كانت العين في أيدي المتداعيين، لكن التأمّل في كلامه المنقول في (المختلف) يفيد أنه لا يفرّق بين الصور فراجعه(3).
وفي (المسالك) لأن المنازعة وقعت في أجزاء غير معينة ولا مشار إليها، بل كلّ واحد من أجزائها لا يخلو من دعوى كلّ منهما باعتبار الإشاعة، فلا يتمّ ما ذكروه من خلوص النصف لمدّعي الكلّ بغير منازع، بل كلّ جزء يدّعي مدّعي النصف نصفه ومدّعي الكلّ كلّه، ونسبة احدى الدعويين إلى الاخرى بالثلث، فتقسم العين أثلاثاً، واحد لمدعي النصف واثنان لمدّعي الكل، فيكون كضرب الديان في مال المفلس والميت.
وفي (المختلف) وافق ابن الجنيد على ذلك مع زيادة المدعيين على اثنين(4).
وقال في (الجواهر): «يمكن أن يكون مبنى كلام ابن الجنيد على دعوى ظهور نصوص التنصيف بعد الإقراع وعدم اليمين منهمافي العول، ضرورة أن بينة كلّ منهما تقتضي الكلّ وهما متعذران فيحصل النقصان عليهما، ومن هنا اتّجه التعدية إلى التثليث لو كانوا ثلاثة والتربيع لو كانوا أربعة وهكذا، وليس إلا لما ذكرنا.
ومنه مفروض المسألة التي لا يمكن الجمع فيها بين بينة النصف مثلاً وبين بيّنة الكلّ، فنقول في النصف كما عالت في الأول، فيوزع عليهما أثلاثاً، لأن نسبة الكلّ إلى النصف كذلك، فالعول عنده نحو العول في الفرائض لولا نصوص أهل العصمة عليه السلام، لقضاء كلّ بينة مثلاً بمقتضاها نحو قوله: للزوج النصف وللاختين من الأب الثلثان ومن الأم الثلث، لا مثل العول في تزاحم الديون على التركة الذي مرجعه عند التأمل أيضاً إلى ذلك»(5).
أقول: إن الخلاف بين المشهور وابن الجنيد يرجع إلى أن المشهور يقولون بتقسيم مدلول البينتين ومورد النزاع بينهما، وابن الجنيد يقول بتقسيم مورد دعوى المدعيين وهو الكلّ من أحدهما والنصف من الآخر والمفروض هو الإشاعة، فيكون الحاصل عدم استثناء النصف بناء على الثاني واستثناؤه بناء على الأول، فالدليل الأول لما ذهب إليه ابن الجنيد هو: الإشاعة في الأجزاء، والثاني: ما ذكره صاحب (الجواهر) من دعوى ظهور نصوص التنصيف بعدالإقراع وعدم اليمين منهما في العول.
قلت: أمّا الأول ففيه: إن تصرف أحد المالكين في الملك المشاع يكون على نحوين:
أحدهما: غير جائز، وهو التصرف الخارجي، لتوقّفه في كلّ جزء على إذن الشريك.
والآخر: جائز بلا إذن منه، مثل أن يبيع نصفه المشاع.
وما نحن فيه ف وهو إثبات الملكية بالبينة ـ كالبيع المذكور، فإنه ليس تصرّفاً في مال الشريك.
وبعبارة اخرى: العوارض الخارجية التي تعرض العين المملوكة على الإشاعة، يتوقف إيرادها على إذن الشريك، وأما العوارض التي تعرض الملكية كالبيع فلا، وما نحن فيه من قبيل الثاني لا الأول، فيكون النصف المشاع ـ الذي لا معارض لمدّعي الكلّ بالنسبة إليه ـ ملكاً له، ويقع التعارض بين البينتين في النصف الآخر، فهو مورد النزاع، وطريق رفع هذا النزاع في صورة تساوي البينتين تقسيمه بينهما بالتنصيف، كما إذا كان مورد النزاع عيناً منحازة يدّعيها كلّ واحد من المدعيين.
وأما الثاني ففيه ـ كما في (الجواهر) إن محل النصوص حيث لا يسلم جزء من العين لا نزاع في، أما في المفروض فلا دلالة فيها عليه، بل لعلّ ظاهر مرسل ابن المغيرة عن الصادق عليه السلام: «في رجلين كان بينهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي وقال الآخر: هما بيني وبينك، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أما الذي قال: هما بيني وبينك فقد أقرّ بأن أحد الدرهمين ليس له فيه شيء وأنه لصاحبه، ويقسم الآخر بينهما»(6) خلاف ذلك، وكذا مرسل ابن أبى حمزة(7) عنه أيضاً.
هذا، وقد فصّل المحقق العراقي في المقام فقال: «لو ادّعى داراً في يد زيد بأجمعها وادّعى عمرو نصفها، فتارة: تكون دعوى التمام بسبب غير قابل للتفكيك بين النصفين، واخرى: على نحو قابل للتفكيك بينهما من حيث الصدق والكذب، فعلى الأول: تكون دعوى النصف مزاحمة لدعوى التمام دون الآخر، ولازمه حينئذ تزاحم بيّنتهما، وفي مثله لا مجال لتوهّم الأخذ بالبينة بالنسبة إلى النصف بلا معارض، بل ولا مجال للأخذ بدعواه بملاك الدعوى بلا معارض، لما عرفت من أن دعوى الملكية على النحو المزبور معارض بدعوى النصف من غيره».
أي: إن قال أحدهما بأن هذه الدابّة نتجت عندي، أي كلّها لي، وقال الآخر: هي بيننا ـ أي على النصف ـ من جهة الإرث، فإذا أقاما البينة على دعواهما كانت البينتان متعارضتين وليس في البين قدر متفق عليه بين الطرفين، وحينئذ يحكم بينهما على طريق العول. نعم، إذا قال هذا: هي كلّها لي، فقال الآخر: قد بعتني نصفها ، فهنا لا نزاع في أحد النصفين.
هذا توضيح ما ذكره.
لكن نقول: إن كانت حجّية البينة في كتاب القضاء من باب الطريقية إلى الواقع، فإن البينة القائمة على ملكية النصف بالإرث تسقط عن الطريقية والكاشفية مع وجود المعارض، وهو البينة القائمة على ملكية الكلّ بالنتاج، لكن البينة هنا جعلت حجة لأجل فصل الخصومة ورفع النزاع، فإذا أقامها أحدهما على ملكية الكلّ والآخر على ملكيّة النصف، فقد جعل الشارع الحكم بالتنصيف لفصل الخصومة، مع أن الحاكم يعلم علماً إجمالياً بكذب احدى البيّنتين.
وبما ذكرنا أجاب المحقق الآشتياني(8) عن توجيه صاحب (الجواهر) لمذهب ابن الجنيد، بأن الطرفين مالكان لجميع الأجزاء على الإشاعة، فقال: بأن ما ذكره يتم بناء على الطريقية، وأما بناء على السببية فلا، فإن دليل حجية البينة في باب القضاء يقتضي سببية البينة فيحكم بحسبها حكماً ظاهريّاً، وعلى هذا، فالنصف الذي لا يدّعيه أحدهما يخرج عن محل النزاع وتكون بينة الآخر سبباً لملكيّته له، ويبقى النصف الآخر ويتعارض السببان فيه، فيقسّم بينهما بالتنصيف فيتم رأي المشهور.
وأجاب عن الدليل الأول: بأن مجرّد وقوع النزاع على سبيل الإشاعة السارية في جميع الأجزاء لا يقتضي عدم سلامة جزء لمدّعي الكلّ، إذ كما يقال إن كلّ جزء يفرض من العين يريد مدّعي النصف نصفه، كذلك يقال إن كلّ جزء يريد مدّعي النصف من المجموع نصفه ويبقى نصفه الآخر لمدّعي الكلّ بلا منازع، ومدّعي الكلّ وإن كان مقصوده رفع يد مدّعي النصف من كلّ جزء لكن بالنسبة إلى نصفه، فهو إنما يقيم البيّنة على المجموع من حيث اشتماله على المدّعى وهو النصف ، لا أن يكون المقصود هو إثبات الكلّ من البينة من حيث الكلّ كما قد يتوهّم، فالتزاحم إنما وقع حقيقة بالنسبة إلى نصف الكلّ، فلابدّ من الحكم بتقسيم البيّنتين بالنسبة إليه، فتقسم العين أرباعاً، ثلاثة أرباع لمدّعي الكلّ وواحد لمدّعي النصف.

(1) شرائع الإسلام 4 : 116.
(2) « العول » تقسيم النقصان بالقدر المساوي على الشركاء ، وهو يذكر في موارد منها ، تركة الميت ، ومنها المال الذي تعلق به حق الديان ، ومنها ما نحن فيه .
مثلاً : إذا كان لأحد الشريكين في الـ ( 26 ) 12 درهماً وللآخر ( 24 ) فتلف من المجموع ( 12 ) درهم ، فإنه يقسّم هذا العدد التالف بينهما بالعدل ، فيقال العدد يشكل ثلث المجموع ، فينقص من كلّ من الشريكين ثلث ما كان له ، فيعطى لصاحب الـ ( 12 ) ثمانية ، ولصاحب الـ ( 24 ) ستة عشر درهماً .
(3) مختلف الشيعة في أحكام الشريعة 8 : 470.
(4) مسالك الأفهام 14 : 121 ـ 122.
(5) جواهر الكلام 40 : 482.
(6) وسائل الشيعة 18 : 450/1 . كتاب الصلح ، الباب 9.
(7) « في رجلين كان بينهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك. فقال أبو عبد الله عليه السلام: قد أقرّ أن الدرهمين ليس له فيه شيء وأنه لصاحبه، وأما الآخر فبينهما » التهذيب 6 / 292.
(8) كتاب القضاء 464.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *