الثالثة: إذا ادّعى شيئاً فقال المدّعى عليه: هو لفلان

المسألة الثالثة

(إذا ادّعى شيئاً فقال المدّعى عليه: هو لفلان)

قال المحقق قدّس سرّه: « إذا ادّعى شيئاً، فقال المدّعى عليه: هو لفلان، اندفعت عنه المخاصمة، حاضراً كان المقرّ له أو غائباً»(1).
أقول: إذا كان شيء بيد شخص، فادّعى أحد كونه له، فتارة: يقول المدّعى عليه: هو لي، واخرى: يقرّ به لمعين فيقول: هو لفلان، وثالثة: يقرّ به لمجهول فيقول: ليس لي ولكن لا أسمّي مالكه أو لا أعرفه.
ولو أقرّ به لمعين، فتارة: هو ممّن يمكن المخاصمة معه، واخرى: لا يمكن المخاصمة معه كأن يكون طفلاً، وتارة: يكون حاضراً، واخرى: يكون غائباً.
فإن أقرّ بالشي لمالك معين بأن قال هو لفلان، اندفعت عنه المخاصمة وتوجّهت إلى المالك، سواء كان حاضراً أو غائباً، وليس له أن يحلّف ذا اليد، إذ لا يحلف أحد على مال لغيره.
وهل أن قوله: هو لفلان، يدخل الشي في ملك فلان المقرّ له أو يخرجه عن ملك ذي اليد فقط؟ وجهان، فعلى الثاني يكفي للمدّعي إثبات كون المال له، وعلى الأول يحكم الحاكم بكونه للمقرّ له، وعلى المدعي المرافعة معه، فيكون المقرّ له هو المدّعى عليه، وهل للمدعي إحلاف ذي اليد أنه لا يعلم أنها له أولا؟ فيه قولان، كما سيأتي.
ولكن إذا كانت في يد الشخص المقر بعد فما المانع من أن يقيم المدّعي البينة لدى الحاكم على كونها له لا للمقرّ له، فيأخذها الحاكم ويدفعها إليه؟ لأنه إن كان المقرّ له حاضراً أو يمكن حضوره، فالبينة مؤثرة كما هو واضح، وإن كان غائباً حكم للمدّعي ثم الغائب على حجّته، نعم، لا يمكن إقامة البينة بأن يكون ذو اليد هو المدّعى عليه، لأنه لا يمكن له اليمين في مال المقرّ له، إلا إذا كان مورد الدعوى وجوب تسليم العين، بأن يقيم البينة على الملكية المستتبعة لوجوب تسليمها فيحلف ذو اليد على عدم وجوبه.
وأما إذا سلّم المدّعى عليه العين إلى المقرّ له، فإما هي باقية بيد المقرّ له، وإمّا هي تالفة، وهل للمدّعي أن يدّعي عليه العلم بكون المال له فيحلف على نفي العلم فإن لم يحلف غرم؟ قال المحقق: نعم، وهذه عبارته: «وإن قال المدعي: أحلفوه أنه لا يعلم أنها لي توجهت اليمين، لأن فائدتها الغرم لو امتنع لا القضاء بالعين لو نكل أوردّ»(2) وعليه العلامة في (القواعد)(3)، وقد نسب إلى الشيخ في أحد قوليه(4)، وفي (المسالك): يجوز إن كانت تالفة(5)، أي، فإن كانت العين باقية أمر باستردادها… وأما إذا لم يمتنع وحلف على نفي العلم فلا شيء عليه.
قال المحقق: «وقال الشيخ: لا يحلف ولا يغرم لو نكل، والأقرب أنه يغرم، لأنه حال بين المالك وبين ماله بإقراره لغيره».
ووجه قول الشيخ هو: إن الإمتناع لا يستلزم العلم بكونها للمدّعي، بل لا يضمن حتى مع الإقرار بذلك، لأنه لا يصدق عليه عنوان التلف حينئذ، فلا وجه للضمان.
قلت: والتحقيق أن الحكم بالغرم بالإمتناع عن اليمين على نفي العلم متوقف على توفّر ثلاث مقدمات: احداها: أن يكون الإقرار لغيره بمنزلة الإتلاف للمال. والثانية: أن يكون الإمتناع عن هذه اليمين بمنزلة الإقرار للمدّعي. والثالثة: أن يكون العلم بكون العين للمدّعي جزءاً لموضوع الضمان أو تمام الموضوع، وأما إذا لم يكن للعلم دخل في الضمان ـ كما هو الصحيح، لأن اليد كافية في ثبوت الضمان ـ فلا أثر لليمين على نفي العلم.
هذا، وفي (المسالك): «إذا ادّعى شيئاً على إنسان، فقال المدّعى عليه: إنه ليس لي، فإمّا أن يقتصر عليه أو يضيفه إلى مجهول أو إلى معلوم. فإن اقتصر عليه أو أضافه إلى مجهول بأن قال: هو لرجل لا أعرفه، أو لا اسميّه، ففي انصراف الخصومة عنه وانتزاع المال من يده وجهان، أصحّهما ـ وهو الذي لم يذكره المصنف ـ أنها لا تنصرف ولا ينتزع المال من يده، لأن الظاهر إن ما في يده ملكه وما صدر عنه ليس بمزيل، ولم يظهر لغيره استحقاقاً، وعلى هذا، فإن أقرّ بعد ذلك لمعيّن قبل، وانصرفت الخصومة إلى ذلك المعين، وإلا فيقيم المدعي البينة عليه أو يحلّفه»(6).
قلت: ولا يخفى ما فيه، لأن قوله: «ليس لي» يزيل ملكيته يقيناً لأنه إقرار، وهذا الإقرار يسقط يده عن كونها أمارة للملكية، نعم، لا ملازمة بين إزالة الملكية للمال وإزالة الملكية لليد، فتكون يده مثل يد الوكيل والأمين والمستعير والمستأجر، لأن إقراره يزيل الملكية للعين ولا يفيد كون يده عدوانية، بل تبقى على حجيتها، وعلى ما ذكرنا تنصرف الدعوى عنه، إذ لو أراد الحلف حينئذ كان في ملك غيره، وأما بناءاً على ما ذكره من عدم صدور ما يزيل الملكية منه فيجوز المرافعة معه، وعلى ما ذكرنا ـ من عدم الملازمة المذكورة ـ يترتب الأثر على إقراره فيما لو أقرّ بعد ذلك لشخص معيّن.
قال: «والوجه الثاني: إنها تنصرف عنه بذلك، ولأنها تبرء من المدّعى عليه، وينتزع الحاكم المال من يده، فإن أقام المدّعي بينة على الإستحقاق فذاك وإلا حفظه إلى أن يظهر مالكه»(7).
قلت: وهذا صحيح في صورة تمامية الملازمة المذكورة، مع احتمال كون يده عليها مشروعة، فيأخذها الحاكم بعنوان النهي عن المنكر..
فظهر أن الصحيح هو إبقاء العين في يد المدّعى عليه، فإن قلنا بأن إقامة البينة لا تتوقف على تمكن المدّعى عليه من اليمين، سمعت ويعطاها، وإلا اُبقيت في يده.. وإن قال: «هي لقطة» فله أن يدفعها إلى الحاكم، لأنه مال مجهول مالكه فيرجع إليه، وله أن يقوم فيها بما يجب عليه من أحكام اللقطة.
ثم ذكر في (المسالك): إنه «إنْ أضافه إلى معلوم، فالمضاف إليه ضربان: أحدهما: أن يمتنع مخاصمته وتحليفه… والثاني: من لا يمتنع مخاصمته ولا تحليفه، كما إذا أضافه إلى شخص معين، فهو إما حاضر وإما غائب، فإن كان حاضراً روجع، فإن صدّق المدّعي انصرفت الخصومة إليه، وإن كذّبه ففيه أوجه… وإن أضاف إلى غائب انصرفت عنه الخصومة أيضاً…».
وسيأتي التعرّض لكلّ ذلك…
ثم قال: «وحيث ينصرف الخصومة عنه وطلب المدعي إحلافه أنه لا يعلم أن العين له، ففي إجابته قولان مبنيان على أنه لو أقرّ له بعدما أقرّ لغيره هل يغرم القيمة؟ فيه قولان مذكوران في محلّه. فإن قلنا: نعم، وهو الأظهر، فله إحلافه، فلعلّه يقرّ فيغرمه القيمة. وإن قلنا: لا، وهو أحد قولي الشيخ، فإن قلنا: النكول وردّ اليمين كالإقرار، لم يحلفه، لأنه وإن أقرّ ونكل وحلف المدعي لا يستفيد شيئاً، وإن قلنا كالبيّنة، فله التحليف، لأنه قد ينكل فيحلف المدّعي، فإذا حلف وكانت العين تالفة أخذ القيمة»(8).
وأشكل عليه في (الجواهر) بقوله: «وفيه ـ بعد الإغماض عمّا في تقييده بتلف العين ـ أن غاية ذلك كون اليمين المردودة كالبينة على إقراره مع علمه بكونه للمدّعي، والفرض عدم اقتضاء ذلك الغرم لو أقرّ به هو، وليس هو بينة على كون المال له، ضرورة كون الدعوى علمه بالحال فيه تكون كالبينة على ذلك، ولا تزيد على الإقرار المفروض عدم الغرم به كما هو واضح. ولذا حكى عن الشيخ إطلاق عدم توجّه اليمين على التقدير المزبور، فتأمل»(9).
قلت: وجه التأمّل هو احتمال كون إطلاق الشيخ من جهة أنه لا يرى كون النكول وردّ اليمين كالإقرار بل كالبينة. وكيف كان، فعلى القول بعدم التحليف لا يفرق بين القول يكون النكول وردّ اليمين بمنزلة الإقرار والقول بكونهما بمنزلة البينة.

(1) شرائع الإسلام 4 : 112.
(2) شرائع الإسلام 4 : 112.
(3) قواعد الأحكام 3 : 486.
(4) المبسوط في فقهالامامية 8 : 266.
(5) مسالك الأفهام 14 : 98.
(6) مسالك الأفهام 14 : 96.
(7) مسالك الأفهام 14 : 97.
(8) مسالك الأفهام 14 : 97 ـ 98.
(9) جواهر الكلام 40 : 446.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *