مورد تحقق التعارض

مورد تحقق التعارض
قال المحقق قدّس سرّه: «ويتحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد والمرأتين»(1).
أقول: لا خلاف ولا إشكال في ذلك، لأن المرأتين تقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة، فتصدق البينة على الشاهد والمرأتين كما تصدق على الشاهدين.
قال: «ولا يتحقق بين الشاهدين وشاهد ويمين، وربما قال الشيخ نادراً: يتعارضان ويقرع بينهما»(2).
أقول: علّل في (الجواهر) ما ذهب إليه المشهور بعدم صدق اسم البينة على الشاهد واليمين(3)، وفي (المسالك) بأن الشاهد لا يستقل بالحجية، واليمين معه وإن أوجبت ثبوت المال إلا أنه حجة ضعيفة، ومن ثم اختلف في ثبوته بها، وبأن الذي يحلف مع شاهد يصدق نفسه والذي يقيم شاهدين يصدقه غيره، فهو أقوى جانباً وأبعد عن التهمة، وبهذا صرح الشيخ في المبسوط في فصل الدعاوى والبينات، وفي الخلاف أيضاً(4).
وقد ذكر المحقق الآشتياني وجوهاً لكنها استحسانية.
قلت: وربما يشكل على تعليل (المسالك) بأنه مع الحجية لا يبقى أثر للضعف والقوة، بل يتحقق التعارض.
والتحقيق أن يقال: إنه إن صدق اسم البينة على الشاهد واليمين، فلا كلام في قدرته على المقاومة مع الشاهدين وتحقق التعارض، لكن المراد من «البينة» في نصوص كتاب القضاء هو اصطلاح خاص، ومقتضى التقابل بين البينة واليمين في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان» مغايرة البينة لليمين وإن كانت مع شاهد، فالحق عدم صدق اسم البينة وعدم تحقق التعارض بينهما.
فإن قيل: التعارض هو بين الحجّتين لا بين البينتين، حتى يقال ليس الشاهد واليمين بينة.
قلنا: مقتضى النظر في النصوص الواردة في علاج تعارض البينتين هو أن المراد البينة بما هي لا بما هي حجة، فلا وجه للتعدي عن موردها.
وبما ذكرنا يظهر الجواب عمّا استدل به الشيخ قدّس سرّه في فصل الرجوع عن الشهادة من (المبسوط) على ما نسب إليه المحقق من القول بالتعارض والقرعة، وإنما قال «وربما» لعدم صراحة كلام الشيخ، ولذا اختلف العلماء في فهم عبارته:
فعن الشهيد حكاية ذلك عنه في (الدروس) صريحاً، وعن فخر المحققين نسبة التردد إليه، وقد رجّح صاحب (المسالك) فهم الفخر بعد نقل عبارة الشيخ(5).
وكيف كان، فلا ريب في ضعفه.
قال المحقق قدّس سرّه: «ولا بين شاهد وامرأتين وشاهد ويمين، بل يقضى بالشاهدين والشاهد والمرأتين دون الشاهد واليمين».
أقول: فالحاصل عدم صدق «البينة» على الشاهد الواحد مع اليمين، وحينئذ لا يقع التعارض بينه وبين البينة مطلقاً، بل يقضى بما قامت عليه البينة ولا يلتفت إلى الشاهد واليمين.

(1) شرائع الإسلام 4 : 111.
(2) شرائع الإسلام 4 : 111.
(3) جواهر الكلام 40 : 433.
(4) مسالك الأفهام 14 : 89.
(5) نص عبارة الشيخ: « إذا شهد شاهدان أنه أوصى لزيد بثلث ماله، وشهد شاهد واحد أنه أوصى بثلث ماله لعمرو، وقال عمرو: احلف مع شاهدي ليكون الثلث بيننا، فهل يزاحم الشاهدين بشاهد ويمين أم لا ؟ قال قوم: يحلف ويزاحم ويساويه، لأن الشاهد واليمين في الأموال بمنزلة الشاهدين. وقال آخرون: لا يساويه، لأن الشاهد واليمين أضعف من شاهدين، لأن الشاهد وحده لا يقوم بنفسه حتى يضم إليه غيره، والشاهدان قائمان بأنفسهما فلا يعارضهما به. فمن قال لا يعارضهما حكم بالثلث لزيد وحده، ومن قال يعارضهما حكم بالثلث لزيد وحده، ومن قال يعارضهما حلف عمرو مع شاهده، وكان الثلث بينهما نصفين، وعلى مذهبنا يقرع بينهما إذا عدم التاريخ، فإن خرج اسم صاحب الشاهدين أُعطي الثلث، وإن خرج اسم صاحب الشاهد الواحد حلف معه وأخذ الثلث » المبسوط 8 / 253 ـ 254.
فالمحقق نسب إليه القول بالتعارض والقرعة لكن مع كلمة « ربما »، لأن كلامه ليس صريحاً، والشهيد نسب إليه القول بذلك صريحاً، وقد فهم هذا من قوله « وعلى مذهبنا يقرع… » والمحكي عن فخر المحققين ( إيضاح الفوائد 4 : 409 ) نسبة التردد إليه لاقتصاره على نقل قولي العامة في ذلك، واستحسنه الشهيد الثاني في المسالك ( مسالك الأفهام 14 : 90 ) قائلاً: « والذي يظهر أن هذا ليس حكماً بالتعارض، لأن القولين اللذين حكاهما عن المخالفين كما هي عادته، ومذهبهم أن الوصية المعينة كالثلث مثلاً لاثنين متعارضين يوجب قسمته بينهما على سبيل العول. ومذهبنا: إن الثاني يكون رجوعاً عن الأول إن علم الترتيب، وإن اشتبه اُقرع، وهذا المذكور على إطلاقه من مواضع الإشتباه، فلما ذكر حكم الوصية على القولين على مذهب المخالف، وكان مذهبنا يخالف القول الأول على تقدير تقديم الشاهدين، ذكر ما يوافق مذهبنا على تقديره التعارض لئلا يوهم أن مذهبنا على تقدير التعارض، ولئلا يوهم أن مذهبنا على تقديره يوجب اشتراكهما في الموصى به، وهذا ليس حكماً بترجيح القول بالتعارض بل هو باق على تردده حيث اقتصر على مجرد نقلهما، وإنما فرع ما يناسب القول الثاني من مذهبنا، فنقل الشيخ فخر الدين عنه التردد أقعد. وقول المصنف: وربما قال الشيخ … يدل على احتماله للأمرين، وكذلك فعل العلامة في القواعد نقلاً عن الشيخ ».
قلت: إن الشيخ قدّس سرّه قد وضع المبسوط للدلالة على كثرة الفروع في فقهنا، وأنه ما من فرع ذكره العامّة إلا وهو موجود في أخبارنا ومنصوص عليه تصريحاً أو تلويحاً من أئمتنا، فالقول بأن عادته الحكاية عن المخالفين كما في المسالك، أو إنه اقتصر هنا على نقل قولي العامّة كما في الجواهر عن الفخر، يخالف الغرض الذي وضع لأجله المبسوط ، فليتأمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *