صور كون الحق ديناً

صور كون الحق ديناً:
وقد ذكر المحقق حكم ما لو كان الحق ديناً بقوله:
«نعم، لو كان الحق ديناً، وكان الغريم مقراً باذلاً، لم يستقل المدّعي بانتزاعه من دون الحاكم، لأن للغريم تخييراً في جهات القضاء، فلا يتعيّن الحق في شيء من دون تعيينه أو تعيين الحاكم مع امتناعه»(1).
أقول: ولو كان الحق الذي يدّعيه الشخص ديناً، فلا يخلو الغريم عن حالات :
الاولى ـ أن يكون مقرّاً بالحق وباذلاً له:
والحكم في هذه الحالة: عدم استقلال صاحب الحق بانتزاع حقّه، لأن للغريم تخييراً في جهات القضاء، فلا يتعين الحق الكلّي الثابت في ذمّته من دون تعيينه، قال في (الجواهر): بلا خلاف بل ولا إشكال(2).
هذا، وقد أشكل على موضعين من عبارة المحقق هذه.
أحدهما ـ قوله: «من دون الحاكم» من جهة أن إذن الحاكم لا دخل له في هذا الفرض، مع أن المستفاد من العبارة جواز أخذه بإذن الحاكم.
والثاني ـ قوله: «أو تعيين الحاكم مع امتناعه» من جهة أن المفروض كونه مقراً باذلاً، فما ذكره لا وجه له، لأنه خلاف الفرض.
وقد أرجع صاحب (الجواهر) الضمير في «امتناعه» إلى التعيين فقال: «أي امتناع تعيينه لحبس أو مرض أو نحوهما، لأن له الولاية العامّة في ذلك»(3).
قيل: ولابدّ أن يجعل المراد من الباذل حينئذ هو الباذل الشأني، وإلا فلا يستقيم ما ذكره.
قلت: ولكنه خلاف الظاهر.
والأولى ما في (القواعد): «إن كان باذلاً فليس للمدًعي الاستيفاء بدون إذنه، وإن كان ممتنعاً فليس له بدون إذن الحاكم»(4).
الثانية ـ أن يكون مقرّاً ممتنعاً من البذل:
والحكم في هذه الحالة كسابقتها، فلا يجوز التقاص إلا بإذن الحاكم، لأنه ولىّ الممتنع، سواء كان معذوراً أو بلا عذر، لأن الحق الثابت في ذمّته كلّي وتعيّنه لا يكون بدون إذن المدين أو وليّه في حال امتناعه ـ وإن لم يستلزم التقاص ضرراً أو فتنة، بل لا يجوز التقاص خفية كذلك ـ هذا بحسب مقتضى القواعد.
لكن مقتضى إطلاق بعض الأدلة الآتية في الصورة الثالثة هو الجواز.
الثالثة ـ أن يكون المدين جاحداً للحق:
وفي هذه الحالة خلاف بين الأصحاب، قال المحقق قدّس سرّه: «ولو كان المدين جاحداً وللغريم بيّنة، تثبت عند الحاكم والوصول إليه ممكن، ففي جواز الأخذ تردّد، أشبهه الجواز، وهو الذي ذكره الشيخ في الخلاف والمبسوط(5)، وعليه دلّ عموم الإذن في الاقتصاص»(6).
فذهب المحقق قدّس سرّه هنا ـ والأكثر كما في (المسالك) وغيره ـ إلى الجواز(7)، والقول الثاني: عدم الجواز، وهو خيرة المحقق في (النافع)(8). وقد أشار هنا إلى دليل الجواز بقوله: «وعليه دلّ عموم الإذن في الإقتصاص» من الآيات والروايات، فمن الكتاب قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(9) وقوله تعالى: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)(10)وقوله تعالى: (فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ)(11).
إلا أن في انعقاد إطلاق هذه الآيات بحيث يمكن الاستناد إليه في قبال القواعد تأملاً.
ومن السنّة أخبار:
1 ـ ما عن ابن رزين قال: «قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام: إني اُخالط السلطان، فتكون عندي الجارية فيأخذونها والدابّة الفارهة فيأخذونها، ثم يقع لهم عندي المال، فلي أن آخذه؟ قال: خذ مثل ذلك ولا تزد عليه»(12).
وهو ظاهر في كون كلام الإمام عليه السلام جواباً عن السؤال عن الحكم في المسألة لا إذناً له في الأخذ، فيكون الحاصل: جواز الاقتصاص من أموالهم الشخصية.
ويبقى الكلام في أنه هل تتحقّق حينئذ مبادلة قهرية بين المالين، أو يكون المال المأخوذ مباحاً له التصرف فيه وما أخذه عامل السلطان مغصوباً أو يكون بدل الحيلولة؟
وأما الأخذ من بيت المال في مقابل تصرّفات عمّال السلطان، فلا يجوز حتى ولو كانت تصرّفاتهم بعنوان السلطنة والحكومة، فيكون نظير ما إذا غصب المتولّي لموقوفة مالاً وصرفه في شئونها، فإنه يضمن في ماله الشخصي ولا يؤخذ من أموال الموقوفة.
2 ـ ما عن أبي العباس البقباق: «أن شهاباً ماراه في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العباس: فقلت له خذها مكان الألف التي أخذ منك، فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب على أبي عبد الله عليه السلام فذكر له ذلك. فقال: أما أنا فأحبّ أن تأخذ وتحلف»(13).
3 ـ ما عن أبي بكر الحضرمي قال: «قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها، أ يجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال نعم، ولكن لهذا كلام، قلت: وما هو؟ قال تقول: اللهم إني لا آخذه ظلماً ولا خيانة، وإنما أخذته مكان مالي الذي أخذ مني لم أزدد عليه شيئاً»(14).
قال الشيخ الحرّ: «هذا محمول على من حلف من غير أن يستحلف».
وفي (الجواهر): «أو عند غير الحاكم أو نحو ذلك، حتى لا ينافي غيره من النصوص، ولا ريب في استحباب القول المزبور، وإن أطنب بعض الناس(15)بدعوى الوجوب الذي يمكن تحصيل الإجماع على خلافها»(16).
4 ـ ما عن جميل بن دراج قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون له على الرجل الدّين فيجحده، فيظفر من ماله بقدر الذي جحده، أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال: نعم»(17).
5 ـ ما عن إسحاق بن إبراهيم: «إن موسى بن عبد الملك كتب إلى أبي جعفر عليه السلام يسأله عن الرجل دفع إليه رجل مالاً ليصرفه في بعض وجوه البرّ، فلم يمكنه صرف المال في الوجه الذي أمره به، وقد كان له عليه مال بقدر هذا المال، فسأل: هل يجوز لي أن أقبض مالي أو أردّه عليه؟ فكتب: إقبض مالك مما في يدك»(18).
لكن هذه الرواية مجملة، لأنه لمّا لم يمكنه صرف المال في الوجه الذي أمره به، فما هو وجه الأخذ منه في قبال المال الذي كان له عليه؟ لأنه إن كان المال موجوداً فتحصل بين المالين المعاوضة القهرية بلا موجب، وإن لم يكن موجوداً فلا ضمان مع عدم التفريط، ولعلّ الرواية كانت تشتمل على قرائن وخصوصيات لم تصل إلينا، وإلا فلم نجد في الأخبار على مورد أذن فيه الإمام عليه السلام بالتصرف في مال الغير بلا دليل شرعي يقتضي جوازه.
فقد دلّت هذه الأخبار بإطلاقها على جواز الأخذ من مال المقر الممتنع والمدين الجاحد، سواء تمكّن من الإستيذان من الحاكم أولا، وسواء كان ماله الذي بيد الغاصب عيناً موجودة أو غير موجودة.
ولو رفع الأمر ـ مع ذلك ـ إلى الحاكم، فإن كان عالماً بصدقه أذن له، وإلا لم يجز له الإذن حتى مقيّداً بكون المدّعي عالماً، كأن يقول له: قد أذنت لك في الأخذ إن كنت عالماً بحقًك، بل لابدّ من إقامة البيّنة المثبتة لحقّه عند الحاكم.
هذا، وقد استدلّ للقول بعدم الجواز: بأن التسلط على مال الغير على خلاف الأصل، فيقتصر منه على موضع الضرورة وهي هنا منتفية، ولأن الممتنع من وفاء الدين يتولّي القضاء عنه الحاكم ويعيّن من ماله مايشاء، ولا ولاية لغيره.
وأجاب في (المسالك) بأن كون التسلّط على مال الغير بغير إذنه خلاف الأصل مسلّم، لكن العدول عن مقتضى الأصل لدليل جايز وهو هنا موجود(19).
وفي (الجواهر): «بل يمكن معارضته بأصل عدم وجوب الرفع إلى الحاكم»(20).
قلت: ليس المورد من قبل الشك السببي والمسببي، بأن يكون الشك في جواز الأخذ مسبّباً عن الشك في توقّفه على إذن الحاكم، حتى يكون جريان الأصل في السبب ـ بأن يقال الأصل عدم وجوب الرجوع إلى الحاكم، وعدم توقّف الأخذ على إذنه ـ مزيلاً لموضوعه في المسبب فيجوز الأخذ، بل إن هنا علماً إجمالياً بجواز الأخذ، إمّا بالإستقلال وإما مع إذن الحاكم، وانتفاء كلّ واحد منهما بالأصل يلازم ثبوت الآخر عقلاً لا شرعاً.
وبناء على تحقق التعارض بين هذين الأصلين، فإنهما يتساقطان ويكون المرجع قاعدة نفي الضرر والضرار في الإسلام.
وكيف كان، فإن ما ذهب إليه المشهور هو الأقوى، لأن النصوص الدالّة على الجواز تخصّص عمومات «لا يحلّ مال امرئ»(21) وبها ينقطع الأصل المزبور، وكأن الإستدلال بأن الممتنع من الوفاء بالدين يتولّى القضاء عند الحاكم ويقوم مقامه، إجتهاد في مقابلة تلك النصوص.
وهذا الخلاف هو في صورة وجود البيّنة والتمكن من الوصول إلى الحاكم، قال المحقق:
« ولو لم تكن له بيّنة أو تعذّر الوصول إلى الحاكم ووجد الغريم من جنس ماله، اقتصّ مستقلاً بالإستيفاء»(22).
قال في (الجواهر): بلا خلاف فيه عندنا، بل الإجماع بقسميه عليه، لإطلاق الأدلة المزبورة وغيرها(23).

(1) شرائع الإسلام 4 : 108.
(2) جواهر الكلام 40 : 388.
(3) جواهر الكلام 40 : 388.
(4) قواعد الأحكام 2 : 213.
(5) كتاب الخلاف 6 : 355 ، المسألة 28 ، المبسوط 8 : 310 ـ 311.
(6) شرائع الإسلام 4 : 108.
(7) مسالك الأفهام 14 : 69.
(8) المختصر النافع : 276.
(9) سورة البقرة 2 : 194.
(10) سورة البقرة 2 : 194.
(11) سورة النحل 16 : 126.
(12) وسائل الشيعة 17 : 272/1 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 83 . والسند صحيح.
(13) وسائل الشيعة 17 : 272/2 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 83.
(14) وسائل الشيعة 17 : 274 عن الشيخ قدّس سرّه ـ وقد قال الشيخ بعده: الحسن بن محبوب عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام نحوه . التهذيب 6 / 348.
(15) نسبه في المستند إلى الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب .
(16) جواهر الكلام 40 : 390.
(17) وسائل الشيعة 17 : 275/10 . أبواب التجارة ، الباب 83 . فيه « علي بن حديد » فعن الشيخ : ضعيف جداً ، وقد ضعفه غيره أيضاً.
(18) وسائل الشيعة 17 : 275/8 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 83 . والظاهر اعتبار سنده . ولكنه في مورد الوديعة كما استدل به في المستند.
(19) مسالك الأفهام 14 : 71.
(20) جواهر الكلام 40 : 390.
(21) وسائل الشيعة 5 : 120/1 . أبواب مكان المصلي ، الباب 3.
(22) شرائع الإسلام 4 : 109.
(23) جواهر الكلام 40 : 391.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *