اللّواحق – وهي ثلاث/الأولى: لو ادعى بعد القسمة الغلط

النظر في اللّواحق وهي ثلاث:

الأولى

(لو ادعى بعد القسمة الغلط)

قال المحقق: «إذا ادّعى بعد القسمة الغلط لم تسمع دعواه، فإن أقام بينة سمعت وحكم ببطلان القسمة، لأنه فائدتها تمييز الحق ولم يحصل، ولو عدمها فالتمس اليمين كان له إن ادّعى على شريكه العلم بالغلط»(1).
أقول: لا فرق بين أن نأخذ (الغلط) بمعنى الإشتباه أو بمعنى عدم صحّة التقسيم وإن كان عن عمد. وقوله (لم تسمع دعواه) أي مع عدم البينة، ومن المدّعى عليه الغلط؟ إنه القاسم، وقال ثاني الشهيدين: «لا فرق في عدم سماع دعوى الغلط في القسمة بمجرّدها بين كون القاسم منصوب الامام ومن تراضيا به وأنفسهما ، لأصالة صحة القسمة إلى أن يثبت المزيل، ولأن منصوب الإمام كالقاضي لا يسمع الدعوى عليه بالظلم»(2).
قال المحقق الآشتياني قدّس سرّه: «وقد تنظرّ فيه الاستاد العلامة بأن مرجع دعوى الغلط في القسمة إلى إنكار أصل القسمة، فليس هناك قسمة مسلم الوقوع بين الشريكين قد وقع النزاع في صحتها وفسادها حتى يحكم بصحتها، ولا يتوهّم جريان هذا الإشكال في ساير المقامات أيضاً، بأن يقال إن مرجع نزاع المتبايعين في صحة البيع وفساده إنكار أصل البيع، فإن البيع العرفي هناك متحقق مسلم الوقوع بينهما، وإنما يدعى أحدهما فساده من جهة عدم مراعاة بعض ما اعتبر فيه شرعاً، وهذا بخلاف المقام، فإن مرجع النزاع فيه إلى إنكار أصل القسمة العرفية، ضرورة أن القسمة من دون التعديل لا تسمى قسمة عرفاً أيضاً، والحاصل أن القسمة عبارة في العرف عن التمييز والإفراز حسبما عرفت سابقاً، فإن سلم وقوعها فلا معنى لدعوى غلط أحد الشريكين فيها، وإلا فمرجع النزاع إلى أصل وقوعها»(3).
قلت: حاصل كلامه عدم انقسام القسمة إلى الصحيحة والفاسدة، بل أمرها يدور بين الوجود والعدم، وليس الأمر كما ذكره، بل في القرآن الكريم: (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى)(4).
قال الآشتياني: «ثم أجاب دام ظلّه عن الإشكال المذكور بوجهين، أحدهما:
أن يكون المراد بالقسمة هي صورتها، لا القسمة الحقيقية فيقال: إن الأصل صحّة ما وقع من صورة القسمة المسلمة بينهم».
قلت: ولم يتّضح لنا معنى هذا الكلام.
قال: «ثانيهما: أن يكون المراد منها سبب القسمة، أي فعل القاسم الذي هو سبب لتحقق التميز، فإنه قد يقع ولا يترتّب عليه التميز والإنعزال، وقد يقع ويترتب عليه، وقد يقع ويشك في ترتبه عليه، فالأصل الترتب نظراً إلى أصالة الصحة في الفعل الواقع من المسلم»(5).
وكيف كان: «فإن أقام بيّنة سمعت وحكم ببطلان القسمة» وذلك كما قال المحقق «لأن فائدتها تمييز الحق ولم يحصل» التمييز، لبقاء مقدار من حق أحدهما في سهم الآخر، وطريق إقامة البيّنة ـ كما في (المسالك) ـ أن يحضرا قاسمين حاذقين لينظر أو يمسحا ويعرفا الحال ويشهدا(6)، فإن شهد القاسم ـ وآخر معه ـ بصحة القسمة قال العلامة: إن كان عمله باُجرة فهو متهم وإن كان مجاناً اعتبرت الشهادة ووقع التعارض بين البينتين(7)، لكنه مشكل ـ كما في (الجواهر) ـ لأن شهادة الإنسان في حق نفسه غير مسموعة، بل لا تقبل في عمل الغير الذي يرجع إليه، نفعه، نعم، يكون قوله حجة في صورة شك أحد الشريكين والسؤال منه من دون مرافعة.
وكيفية إقامة الدعوى عند الحاكم على القاسم أن يقول للحاكم: لقد قامت البينة عندي على وقوع الخطأ في القسمة فيقول له: أحضرها، كذا عن (مفتاح الكرامة) وقيل: لا تسمع الدعوى على قاسم الحاكم حتى مع البيّنة، وهذا مشكل.
فظهر أن الدعوى لا تسمع مع عدم البينة، فإن كان له بينة وأقامها سمعت وترتب الأثر على ذلك.
ولو عدم المدعي البينة، فهل له التماس اليمين؟ قال المحقق: كان له… فمن يكون الحالف حينئذ القاسم أو الشريك؟ قال المحقق: الشريك. وهل يحلّفه مطلقاً؟ قال المحقق: لا، بل إن أدّعى على الشريك العلم بالغلط.
وتوضيح ما ذهب إليه المحقق هو: إنه إن أدعى على الشريك علمه بالغلط ـ بأن يقول له علمت بالغلط قبل انتهائه أو يدّعيه عليه بعد العمل ـ فإن أقرّ الشريك فلا كلام، وإن أنكر أحلفه الحاكم، فإن حلف على نفي العلم سقطت الدعوى، وإن نكل ثبتت الدعوى بناء على ثبوتها بالنكول، وأما على القول بعدم كفاية النكول ردّ اليمين على المدعي، فإن حلف ثبتت وإلا سقطت.
أما القاسم فلا يحلف، لأنه إن حلف بعدم الغلط كانت النتيجة للغير وهو المدعى عليه، وإن أقرّ لا يعتبر إقراره، لأن نفعه يعود إلى المدّعي، والمفروض أن الشريك لا يصدقه.
فإن كان القاسم منصوباً من قبل الحاكم فلا يحلف بالأولويّة.
وقال جماعة بجواز حلف الشريك على نفي الواقع، بل قيل إنه المشهور بين الأصحاب خلافاً للمحقق.
ولو أنهما قسّما المال بأنفسهما، فادعى أحدهما وقوع الغلط وأنكر الآخر، فلا يحلف المنكر مع عدم البينة إلا على نفي العلم بالغلط والاشتباه.
هذا كلام المحقق، وقد وافقه في (الجواهر) خلافاً للآخرين.
أقول: والحق ما ذهب إليه المحقق، لأن القاسم لا يحلّف، لأن يمينه في حق الغير ولا يحلف الشريك على نفي الواقع، لأنه في فعل الغير، فتبقى اليمين على نفي العلم ، وكذا الأمر فيما إذا قسما بأنفسهما، فإنه لا يمكن إحلاف الشريك على نفي الواقع، مع أن المدّعي قد شاركه في هذا التقسيم حسب الفرض.
وقال المحقق الكني ما حاصله(8): إن الغلط يكون تارة: بمعنى المصدر المبني للفاعل، وعليه، فلا يمكن إحلاف الشريك على نفي الغلط من القاسم، وأخرى: يكون بمعنى المصدر المبني للمفعول، فهنا يجوز إحلافه وله الحلف على نفي وقوع الغلط إن كان عالماً، فمن قال بعدم الجواز، فقد أخذ الغلط بذاك المعنى، ومن قال بالجواز أخذه بهذا المعنى. وبذلك يجمع بين القولين.
أقول: وبناء على كون (الغلط) بمعنى المصدر المبني للمفعول، يمكن أن يكون المدّعى عليه هو الشريك، كما إذا كان بنفسه دخيلاً في القسمة أو ناظراً لها، وحينئذ يكون حلفه في فعل نفسه، وكذا لو ادّعى عليه وجود شيء من حقه فيما بيده من المال، فله أن يحلف على القطع والبت إن كان عالماً وإلا ردّ.
ولعلّ هذا هو مراد من نصّ على جواز إحلاف الشريك وإن لم يدّع عليه العلم.

(1) شرائع الإسلام 4 : 105.
(2) مسالك الأفهام 14 : 55.
(3) كتاب القضاء للاشتياني : 326.
(4) سورة النجم 53 : 22.
(5) كتاب القضاء للآشتياني : 326.
(6) مسالك الأفهام 14 : 55.
(7) قواعد الأحكام 3 : 465 . ما نقل عن العلامة مفهوم كلامه لا صريح كلامه.
(8) كتاب القضاء : 423.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *