2- حكم ما لو ادعى بعض الورثة أن الميت وقف عليهم داراً

المسألة الثانية

( حكم ما لو ادعى بعض الورثة أن الميت وقف عليهم داراً )

قال المحقق قدّس سرّه: « لو ادّعى بعض الورثة أن الميّت وقف عليهم داراً وعلى نسلهم، فإن حلف المدّعون مع شاهدهم قضي لهم »(1).
أقول: الظاهر عدم الفرق بين كون من يدعي وقفية الدار عليه من الورثة أو غيرهم، فإن الوقفية تثبت بالشاهد ويمين المدعي، وبذلك تخرج الدار عن التركة فلا يؤدّى منها الدّين وإن كان مستوعباً، ولا تقسم بين الورثة بحسب الميراث، بل تكون بين الموقوف عليهم بحسب صورة الوقف .
فإن انقرض هؤلاء، فهل يتوقف أخذ البطن الثاني الدار على إقامة الشهادة والحلف مرّة أخرى أم لا بل يكفي لذلك حلف البطن الأوّل وشهادة شاهدهم على دعواهم المذكورة فتنقل الدار إليهم كالإرث ؟ وجهان. وهذا البحث يتوجّه فيما إذا كان الوقف المدّعى بنحو التشريك بين البطون لا الترتيب.
فالوجه الأوّل: هو التوقف على تجديد الحلف والشهادة، لأن دعوى الوقفيّة على نفسه وعلى نسله تنحلّ في الواقع إلى دعويين: كونه الموقوف عليه ما دام حيّاً، وكون الدار وقفاً على نسله من بعده، فبيمينه وشهادة شاهده تثبت الدّعوى الاولى، وثبوت الثانية يتوقف على يمين البطن الثاني وشهادة شاهدهم.
والوجه الثاني: كفاية حلف البطن الأوّل مع شهادة الشاهد، لأن البطن الثاني يتلقّى الدار من البطن السابق لا من الواقف، والمفروض ثبوت دعوى البطن السابق بكونها وقفاً عليه وعلى نسله.
وبعبارة أخرى: إن كان الواقف يجعل الدار للبطن الأوّل مشروطاً بانتقالها منهم إلى البطن الثاني دون سائر الورثة ـ نظير إيقاف الدار على زيد مادام حيّاً وانتقالها بعد موته إلى جهة إقامة المأتم على سيد الشهداء عليه السلام ـ فلا حاجة إلى إثبات البطن الثاني للوقفية، وإن كان للواقف جعلان أحدهما للبطن الأوّل، والثاني للبطن الثاني بعد انقراض الأوّل، لزم الحلف وإقامة الشهادة على الثاني.
وظاهر ( المسالك ) اختيار الوجه الأوّل، وقد ذكر وجوهاً على ذلك:
أحدها: التنظير بالإرث، قال: « كما إذا أثبت ملكاً بالشاهد واليمين ثم مات، فإن وارثه يأخذه بغير يمين »(2).
وأجاب في ( الجواهر )(3) بأن تملّك المورّث موضوع في الدليل الشرعي للإنتقال إلى الوارث، ولكن لا دليل في مسألة الوقف على أن ما ثبت لهذا البطن ثابت للبطن اللاّحق ، نعم ، إن أقيمت البينة كانت كاشفة عن ملكية هذا البطن ونسله.
والثاني: قوله: « ولأنه قد ثبت كونه وقفاً بحجة يثبت بها الوقف فيدوم كما لو ثبت بالشاهدين ».
أقول: إن أراد من هذا الوجه الأخذ بتنقيح المناط، بمعنى أن الموجب لأخذ البطن الأوّل ، يوجب أخذ الثاني بالأولويّة، ففيه: إن ذلك ممنوع، إلا إذا ثبتت الوقفية بالبينة. وإن أراد أن ثبوت الوقفية يستلزم الدوام، لأن الدوام له دخل في مفهوم الوقف، ففيه: إن الذي ثبت بالشاهد ويمين البطن الأوّل جواز انتفاعهم من منافع الدار لا وقفيّتها، لأن الوقف لايثبت بالشاهد واليمين، فيكون نظير جواز الصلاة في الثوب المحكوم بالطهارة استصحاباً، فإنه لا يثبت له الطهارة بل ثبت جواز الصلاة فيه.
والثالث قوله: « ولأن البطن الثاني وإن كانوا يأخذون عن الواقف، فهم خلفاء عن المستحقين أوّلاً، فلا يحتاجون إلى اليمين… »(4).
وفيه: إن هذا ليس بدليل يعتمد عليه.
فتلخص: إن أصل الوقفية لا يثبت بالشاهد ويمين البطن الأوّل، فإن وصلت النوبة إلى البطن الثاني وجب عليهم إعادة الشهادة واليمين، ولا ملازمة عقلاً أو شرعاً بين قول البطن الأوّل وقول البطن الثاني.
ثم قال في ( المسالك ): « وإن قلنا بالثاني ، لم يأخذ إلا باليمين كالبطن الأوّل، وعليه، فلو كان الاستحقاق بعد الورثة كالأولاد مثلاً للفقراء ، وكانوا محصورين كفقراء قريته ومحلّته، فالحكم كالأوّل، وإن لم يكونوا محصورين بطل الوقف، لعدم إمكان إثباته باليمين، وعادت الدار إرثاً »(5).
وفيه: إنه لا وجه للحكم ببطلان الوقف، نعم ، لا يثبت الوقف وهو أمر آخر ، اللهم إلاّ أن يقال بترتّب أثر البطلان عليه، وحيث تعود الدار إرثاً، فهل يشترط في استحقاق الوارث منها وجوده عند موت المورث أو لا ؟ فيه بحث.
ثم قال قدّس سرّه: « وهل يصرف إليهم بغير يمين ؟ وجهان »(6).
أقول: وهذا عجيب، فإنه لما تعود الدار إرثاً لا يبقى مورد لهذا البحث.
قال: « ويحتمل عودها إلى أقرب الناس إلى الواقف، بناء على أنه وقف تعذّر مصرفه كالوقف المنقطع… » أي: إنه مع غض النظر عن الإشكال من جهة تعذّر حلف جميعهم ، لفرض عدم الإنحصار، يكون وقفاً متعذّر المصرف، فيحتمل عودها إلى أقرب الناس إلى الواقف.
وفيه: إنه إن كان المراد من الأقرب إليه هو الأقرب بما هو أقرب لا بما هو وارث، فهذا لا يقول به أحد من الأصحاب، والأولى في الوقف الذي تعذّر مصرفه أن يصرف في مطلق وجوه البرّ أو إلى الوجه الأقرب إلى غرض الواقف.
ولو مات أحد الحالفين وبقي سائرهم، صرف نصيبه إليهم، فإن لم يبق منهم إلا واحد، صرف كلّ الوقف إليه، قال في ( المسالك ):
« وهل أخذ الآخرين يكون بيمين أو بغير يمين ؟ يبنى على أن البطن الثاني هل يأخذ بيمين أم لا؟ فإن قلنا بعدم افتقاره إلى اليمين فهنا أولى ، وإن قلنا باليمين ففيه هنا وجهان : من انتقال الحق إلى الباقي من غيره فيفتقر إلى الحلف. ومن كونه قد حلف مرّة وصار من أهل الوقف، فيستحق بحسب شرط الوقف تارة أقلّ وتارة أكثر »(7).
لكن الأقرب ـ وفاقاً للجواهر(8) ـ عدم التوقف على اليمين.
هذا كلّه بالنسبة إلى حكم ما إذا حلف المدّعون أجمع.
قال المحقق قدّس سرّه: « وإن امتنعوا حكم بها ميراثاً ، وكان نصيب المدّعين وقفاً »(9).
أقول: وإن امتنع جميع المدّعين للوقفيّة عن اليمين ، اشتركوا مع سائر الورثة في الدار، وقسّمت بينهم حسب الفريضة في الميراث، لكنهم حيث يعترفون بالوقفيّة ، يكون ما وقع إليهم وقفاً ، فلا يتصرفون فيه التصرف الملكي، ومع موت الناكلين تنتقل سهامهم إلى ورّاثهم، وعليهم أن يعاملوا ما ينتقل إليهم معاملة الوقف، لإقرار مورّثيهم بالوقفية.
ولو ادّعى هؤلاء على سائر الورّاث بأن جميع الدار وقف ففي ( المسالك ) :
« وجهان مبنّيان من كون الأولاد تبعاً لآبائهم، فإذا لم يحلفوا لم يحلفوا، ومن أنهم يتلقّون الوقف من الواقف فلا تبعية. وربما بني الخلاف على أن الوقف المنقطع الابتداء هل يصح أم لا ؟ فإن منعناه لم يحلف الأولاد على الجميع لانقطاعه قبل طبقتهم ، وإن جوّزناه جاء الوجهان. والحق : مجيؤهما وإن منعنا من الوقف المنقطع الأوّل، لأن حلف الأولاد اقتضى عدم انقطاعه في الواقع وإن انقطع بالعارض حيث لم يحلف آباؤهم، ولأن البطن الثاني كالأوّل، لأن الوقف صار إليهم بالصيغة الاولى عن الواقف، ولأن منع الثاني من الحلف يؤدّي إلى جواز إفساد البطن الأوّل الوقف على الثاني ، وهذا لا سبيل إليه. فالقول بجواز حلفهم أقوى، وهو خيرة الشيخ في المبسوط والمصنف وغيرهما »(10).
قلت: وما ذهبوا إليه هو الأقوى.
وأما إشكال صاحب ( الجواهر ) قدّس سرّه من « أن يمين الأولاد لا يصلح لإثبات اتصال الوقف، لأنه حينئذ يكون يميناً للغير »(11) . فمندفع بأن هذه اليمين تثبت عدم انقطاع الابتداء وليست لآبائهم.
قال المحقق: « وإن حلف بعض ثبت نصيب الحالف وقفاً وكان الباقي طلقاً ، تقضى منه الديون وتخرج الوصايا، وما فضل ميراثاً »(12).
أقول: أي ينتفع منه الجميع، ولكن الناكلين الذين يعترفون بالوقفية ليس لهم أن يعاملوا ما وقع إليهم معاملة الملك، وكذا الأمر بالنسبة إلى ورّاثهم وإن أعطوا بعنوان الإرث، لأن إقرار آبائهم بالنسبة إلى ما بأيديهم حجة، فلو أقرّ المورّث عند الوارث بأن الشيء الفلاني وديعة عنده من فلان وليس من جملة أمواله، وجب على الوارث دفع الشيء إلى مالكه بلا بينة.
ومن ادّعى الوقفية ونكل عن اليمين جاز لوارثه أن يحلف عليها، فيأخذ مثل وارث الحالف بعد انقراض البطن الأوّل، ويترتب على يمين وارث الناكل أنه إن كان الوقف على الأولاد بالسويّة وامتنع أحدهم عن اليمين، كان أمر بنته دائراً بين أن تحلف على الوقفيّة ـ فيكون نصيبها مساوياً لنصيب أخيها ـ وبين أن تأخذ نصف سهمه من باب الإرث.
وحيث يثبت نصيب الحالف وقفاً، فهل يعطى مع ذلك سهماً بعنوان الإرث ؟
قال المحقق والعلاّمة قدس سرهما: نعم.
والأقوى ـ كما تقدّم ـ هو جواز حلف الأولاد على أن جميع الدار وقف، لأنه ليست الوقفية على البطن الثاني تابعة للوقفية على البطن الأوّل، وأيضاً : ليست يمين البطن الثاني تابعة ليمين البطن الأوّل.
قال المحقق: « وما يحصل من الفاضل للمدّعين يكون وقفاً ».
أقول: أي للإقرار كما عرفت آنفاً.
قال: « ولو انقرض الممتنع كان للبطن التي تأخذ بعده الحلف مع الشاهد، ولا يبطل حقّهم بامتناع الأوّل »(13).
أقول: وهذا واضح ، وقد عرفته آنفاً أيضاً.

(1) شرائع الإسلام 4 : 93.
(2) مسالك الأفهام 13 : 523.
(3) جواهر الكلام 40 : 291.
(4) مسالك الأفهام 13 : 523.
(5) مسالك الأفهام 13 : 523.
(6) مسالك الأفهام 13 : 525.
(7) مسالك الأفهام 13 : 525.
(8) جواهر الكلام 40 : 293.
(9) شرائع الإسلام 4 : 94.
(10) مسالك الأفهام 13 : 524 ـ 525.
(11) جواهر الكلام 40 : 294.
(12) شرائع الإسلام 4 : 94.
(13) شرائع الإسلام 4 : 94.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *