حكم ما إذا كان الحلف على نفي فعل الغير و فروع ذلك

حكم ما إذا كان الحلف على نفي فعل الغير و فروع ذلك
قال المحقق: « ومع توجهها يلزم الحلف على القطع مطرداً ، إلاّ على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم »(1).
أقول: هذا أحد الأقوال في المسألة، وفيها قولان آخران:
أحدهما: لزوم أن يكون الحلف على نفي العلم دائماً، لأن المؤثر هو العلم، فلو ادّعى على زيد حقاّ ، كان مجرد عدم علمه بالحق كافياً لعدم ثبوته، ولا حاجة إلى نفيه كونه مديناً للمدّعي.
والثاني: لزوم كون الحلف على البت والقطع، سواء كان على فعله أو فعل غيره، إذ لا معنى للتقابل بين الواقع ونفي العلم به، بل إن اليمين يجب أن تكون دائماً مع الجزم واليقين بنفي الدعوى مطلقاً.
أقول: والذي وجدنا في النصوص هو الحلف والاستحلاف على نفي المدّعى ، ولم نجد في شي منها أن يحلف على نفي العلم(2) وكيف كان، فالمعتبر هو الجزم، سواء قلنا بأن نفي المدّعي يستلزم نفي العلم به أو لا ، وقد أفتى بعضهم بأنه حيث ينكر المدّعى به له أن يحلف على نفيه وأن يحلف على نفي العلم به، وأما على القول بلزوم اليمين على نفي المدّعى على البت، فلا يكفي اليمين على نفي العلم حينئذ.
وبناءاً على القول الثاني، لو ادّعى عليه ديناً ولا بينة له، وجب عليه الأداء في صورة العلم بكونه مديناً، ومع الشك لا يجب، لأصالة البراءة، فإن ادّعى علمه بذلك ونكل المدّعى عليه عن اليمين، ثبت الحق ووجب عليه الأداء، وحينئذ، يتوجه على هذا القول أنه لا يمكن أن يكون الميزان اليمين على نفي العلم في كلّ مورد ، مع أنه مخالف لظواهر النصوص المشار إليها، ومن هنا ، فقد حمل هذا القول على كون الدّعوى على فعل الغير مع دعوى كون المدّعى عليه عالماً ، فهناك يحلف على نفي العلم.
ثم إنه لو ادّعي عليه ما ليس يعلمه ولم يطلب منه اليمين على نفي العلم ، سقطت الدعوى، لأن الجواب بنفي العلم بمنزلة الإنكار، فإن لم يكن له بيّنة ولم يستحلفه كانت الدعوى ساقطة.
هذا ، وهنا فروع يشكل حكمها وإلحاقها بأحد القسمين، قال المحقق:
« فلو ادّعي عليه ابتياع أو قرض أو جناية فأنكر، حلف على الجزم ، ولو ادّعي على أبيه الميت لم يتوجه اليمين ما لم يدّع عليه العلم، فيكفيه الحلف أنه لا يعلم »(3).
أقول: أما في الفرع الأوّل، فلأنّ الابتياع مثلاً فعل نفسه، فإذا أنكر حلف على الجزم، وأما في الفرع الثاني، فلا تتوجه عليه اليمين، لأنه فعل الغير، فإن ادّعي عليه العلم بفعل أبيه الميت ـ مثلاً ـ كفاه الحلف على أنه لا يعلم.
هذا ، وظاهر قوله: « فيكفيه الحلف أنه لا يعلم » هو فصل الخصومة بهذا الحلف، وأما إذا لم يحلف كانت الخصومة باقية وتسمع بينة المدعي حينئذ، وسيأتي بيان ذلك قريباً .
ومن الفروع ما ذكره بقوله: « وكذا لو قال قبض وكيلك ».
يعني: أنه لو طالبه بحقّه فقال له: قبض وكيلك، فإن كان يعلم بعدم القبض جاز له الحلف على الجزم على قول، وقيل: لا يجوز، لأنه فعل الغير.
أقول: لكن قد يحصل له العلم والجزم بعدم القبض وإن كان فعل غيره، فحينئذ يجوز له الحلف على القطع، لأن المنع عن اليمين على فعل الغير هو من جهة الجهل به غالباً، فإن علم به جاز، كما إذا قال المدين: قبضه وكيلك الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة، وقد كان الوكيل عند موكّله المدّعي يوم الجمعة من أوّل الصبح حتى الظهر مثلاً، فإنه حينئذ يجوز للموكّل أن يحلف على البت على نفي القبض، لعلمه الجازم بذلك…
فإن لم يعلم الموكّل لم يجز له الحلف، وكذا لا يحلف على نفي العلم ما لم يدّع عليه ذلك، وحيث لا بينة للمدّعى عليه على الأداء، وجب عليه دفع الحق.
وفي (الجواهر) عن كشف اللثام: « فإذا حلف الموكّل أثبت المدّعي قبض الوكيل أو حلف على البراءة. وفيه: إنه لا وجه للحلف بدون رضا الموكّل … »(4).
أقول: ليس في ( كشف اللثام )(5) ما يفيد ذلك، وهذا نصّ كلامه معلّقاً على قول العلاّمة : « ولو قال قبض وكيلك حلف على نفي العلم » بقوله: « دون البتّ، لأنه فعل الغير وإن قيل أن يده وقبضه قبضه » نعم ، في ( القواعد )(6) فرع آخر ذكره بقوله: « ويكفي مع الإنكار الحلف على نفي الاستحقاق وإن نفى الدعوى على رأي » .
هذا، ولكن قال المحقق الآشتياني(7) قدّس سرّه: إنه لو ادّعى علمه بالقبض لم تسمع دعواه ـ لا أنه يحلف لنفيه ـ لأن علم الموكّل لا يلازم صدق الدّعوى، إذ قد يكون جهلاً مركّباً، ولا يكون حجّة للحاكم حتى يحكم على طبقه.
وفيه: إنه منقوض بما لو ادعي علمه بقبض الوكيل فصدّقه الموكّل، فإن هذا التصديق يكون بمنزلة الإقرار عرفاً ، وإن احتمل عقلاً كونه جهلاً مركّباً، فظهر أن لدعوى العلم بالقبض أثراً، ولا أقل من نهي الحاكم إيّاه عن المطالبة حينئذ، فلماذا لا تسمع ؟
ومن الفروع ما ذكر في ( المسالك )(8) و( الجواهر )(9): لو ادّعى عليه أن عبده جنى على المدّعي ما يوجب استحقاقه أو بعضه ، فأنكر، فوجهان، من أنه فعل الغير فيحلف على نفي العلم، ومن أنه عبده ماله وفعله كفعل نفسه ولذلك سمعت الدّعوى عليه ، فيحلف على البت.
فعلى الثاني: إن لم يحلف يكون ناكلاً، بخلاف الأوّل فلا يكون ناكلاً بعدم الحلف، فإن كان للمدعي بينة على الجناية فهو، وإلا سقطت دعواه.
ومنها: إذا ادّعي عليه أن بهيمته أتلفت زرعاً له ـ مثلاً ـ حيث يجب الضمان بإتلاف البهيمة ، فأنكر، فهل يحلف على البت لأنه الذي يضمن الضرر بتقصيره في حفظها ، أو لا ، لأنه فعل الغير ؟ قولان.
وعن الشهيد: إن العبد يخالف البهيمة من وجهين: أحدهما: إن البهيمة لا تضمن جنايتها إلا مع التفريط ، بخلافه ، والآخر: إن جناية العبد تتعلّق برقبته، فإذا أتلف لم يضمن مولاه، بخلاف البهيمة، فإنها إذا أتلفت بتفريط ، فإن المالك يضمن جنايتها ولا تتعلّق برقبتها.
ومنها: لو نصب البائع وكيلاً ليقبض الثمن ويسلّم المبيع ، فقال له المشتري: إن موكّلك أذن في تسليم المبيع وأبطل حق الحبس وأنت تعلم، فهل يكتفى بالحلف على نفي العلم لأنها لنفي فعل الغير، أو لابدّ من اليمين على البت لأنه يثبت لنفسه استحقاق اليد على المبيع، فإن لم يحلف قضي عليه بالنكول أو بردّ اليمين ؟ وجهان.
ومنها: لو طولب البائع بتسليم المبيع، فادّعى حدوث عجز عنه وقال للمشتري: أنت عالم به. قيل: يحلف على البت لأنه يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه، ويحتمل الحلف على نفي العلم، لأن متعلّقه فعل الغير.
ومنها: ما لو مات عن ابن في الظاهر فجاء آخر فقال: أنا أخوك فالميراث بيننا، فأنكر، قيل: يحلف على البت أيضاً، لأن الاخوة رابطة جامعة بينهما، ويحتمل قويّاً حلفه على نفي العلم.
ثم إن المراد من « الغير » هو أن لا يكون الفعل مستنداً إلى نفسه مع الإلتفات ، وإن لم يكن مستنداً إلى « غيره ».
هذا، وقد اعترض صاحب ( الجواهر ) على القول الأوّل، بعد ذكر الفروع المذكورة بقوله: « ولكن تحقيق الحال في ذلك متوقف على تحقيق اقتضاء الدعوى ـ المتعلّقة بفعل الإنسان نفسه نفياً وإثباتاً وبفعل الغير إثباتاً ـ يميناً على البت أو ردّاً، وإلاّ كان ناكلاً قضي عليه به أو بردّها من الحاكم، ولا يجديه الجواب بنفي العلم وإن صدّقه المدعي فضلاً عمّا لو ادّعاه عليه أيضاً، فإن جميع هذه الفروع مبنيّة على ذلك ، وقد تقدّم سابقاً في جواب المنكر ما يستفاد منه المناقشة في ذلك ، ونزيد هنا بأنه لا دليل على تسبيبها ذلك… » ثم إنه قدّس سرّه انتهى إلى القول: « وبذلك يظهر لك حينئذ ما في الفروع السابقة جميعها، وأنه لا فرق في الحكم فيها بين القول بتعلّقها في فعل الغير أو فعل المدّعى عليه ، في الإجتزاء بيمين نفي العلم مطلقاً أو إذا ادّعي عليه، وإلاّ كان طريق إثباتها منحصراً في البينة… »(10).
قلت: لكن الأظهر كون اليمين على البت، لأنه مقتضى أدلّة وجوبها على المنكر، فإن كانت الدّعوى على الواقع وهو ينكرها ، حلف على البت، سواء كان على نفي فعل نفسه أو غيره، وإن كانت على علمه وهو ينكره ، حلف على نفيه كذلك مطلقاً.
ولو كان شاكّاً في صدق دعوى المدّعي، لم يمكنه اليمين، سواء كانت على فعل نفسه أو غيره، فلا يمكنه ردّ الحلف على المدّعي، وإذ ليس للمدعي بينة على دعواه ـ كما هو المفروض ـ تسقط الدّعوى، لانحصار سبب الحكم في بينة المدعي ويمين المنكر، وكلاهما منتفيان، فإن ادّعى عليه العلم بالواقع بعدئذ كانت دعوى جديدة وكان له الحلف على نفيه.
فيكون الحاصل لزوم كون اليمين على البتّ مطلقاً.
وهل اليمين بنفي العلم تفصل الخصومة كيمين المنكر على عدم الحق ، فلا يستمع إلى بينة المدعي بعدها أو لا ؟ قال المشهور بالأوّل، وهو ظاهر قول المحقق قدّس سرّه: « فيكفيه الحلف على أنه لا يعلم »(11) أي: فيكفيه فاصلاً للخصومة ، بمعنى أن الحاكم إن حكم على طبقها لم تسمع بينة المدّعي بعدها على أصل الدّعوى، لأن معنى « واليمين على من أنكر » و « إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان » هو القضاء بكلّ يمين كان وظيفة المدّعى عليه بذلها، فحيث ادّعى عليه العلم وحلف على نفيه وحكم الحاكم، فصلت الخصومة.
على أن ظاهر المدّعي الفاقد للبينة على ما يدّعيه من الحقّ هو رضاه بيمين المدّعى عليه في نفي دعواه علمه بالواقع، وقد دلّت الأخبار على أن من رضي بيمين خصمه سقط حقه(12)، فإذا حلف فقد حصل سبب الحكم، وبصدوره تنفصل الخصومة ولا تسمع البينة بعدئذ، بخلاف ما إذا لم يطلب منه اليمين على نفي العلم فإنها تسمع، لأن الخصومة باقية وليس للحاكم إحلافه، لما تقدّم من أنه لا يستحلفه إلا بالتماس المدعي .
وبعبارة أخرى: عندما يحلف بنفي العلم تسقط دعوى العلم، وحينئذ، لا ملزم للمدّعى عليه بدفع الحق، لعدم البينة، فيكون أثر الحلف على نفي العلم ـ مع حكم الحاكم ـ فصل الخصومة وعدم سماع البيّنة.
فيكون الحاصل: إن الحلف على نفي العلم لا ينفي الواقع، ولكنه لا يبقي المجال لأن يتمكن المدعي من الإلزام بدفع شيء بإقامة البينة على الدّعوى.
هذا كلّه بناء على عدم جواز الحلف على البت بمقتضى الأمارات والاصول، وإلا كان له الحلف على نفي الواقع بالاستناد إلى الحكم الظاهري ، فما هو المستفاد من الأدلّة ؟
الظاهر عدم الخلاف في أن اليد أمارة على الملكيّة، فكلّما كان تحت سلطنة الشخص من غير معارض يكون له ملكاً له(13)، ومن هنا يجوز له أنحاء التصرف فيه، ويجوز لغيره الإخبار ـ في غير مورد المرافعة ـ عن كون الشي ملكاً له استناداً إلى كونه تحت يده.

(1) شرائع الإسلام 4 : 89.
(2) أنظر : خبر عبد الرحمان بن أبي عبدالله ، وخبر ابن أبي يعفور ، وخبر كيفية احلاف الأخرس ، وقد وردت نصوصها في الكتاب.
(3) شرائع الإسلام 4 : 89.
(4) جواهر الكلام 40 : 243.
(5) كشف اللثام 10 : 129.
(6) قواعد الأحكام 3 : 447.
(7) كتاب القضاء.
(8) مسالك الأفهام 13 : 486.
(9) جواهر الكلام 40 : 243.
(10) جواهر الكلام 40 : 245.
(11) شرائع الإسلام 4 : 89.
(12) وسائل الشيعة 27 : 244 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 9.
(13) وسائل الشيعة 27 : 292 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 25.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *