الثانية: يقضى على الغائب مطلقاً أو في حقوق الناس ؟

المسألة الثانية

( يقضى على الغائب مطلقاً أو في حقوق الناس ؟ )

قال المحقق قدّس سرّه: « يقضى على الغائب في حقوق الناس ، كالديون والعقود، ولا يقضى في حقوق الله تعالى كالزنا واللواط ، لأنها مبنية على التخفيف »(1).
أقول: ولذا تدرء الحدود بالشبهات، بخلاف حقوق الناس ، فإنها مبنيّة على الإحتياط …
فإن قيل: فلماذا لا يعتنى باحتمال خطأ الشاهدين، بل يحكم على طبق شهادتهما على المدّعى عليه الحاضر ؟
قلنا: إن احتمال خطأ البينة يلغيه دليل حجيّتها، فلا مجال حينئذ لدليل درء الحدّ بالشبهة ، وإلا لتوقف إجراء الحدّ على العلم بالواقع في القضية أو بصدق الشاهدين، لكن حيث أن المدّعى عليه غائب يمكن حضوره وجرح الشاهدين، أو إقامة البينة على أن المتهم في هذه القضية ليس هو بل غيره، فهذا الإحتمال يدرأ به الحدّ.
قال المحقق: « ولو اشتمل الحكم على الحقّين قضى بما يخصّ الناس كالسرقة ، يقضى بالغرم، وفي القضاء بالقطع تردد ».
أقول: لو اشتمل الحكم على حق الناس وحق الله معاً كالسرقة ، يقضى عليه في حق الناس، وأما القضاء بحق الله ـ وهو القطع ـ فقد تردّد فيه المحقق قدّس سرّه، قال شارحوه: إنه لم يتردد في عدم القضاء به غيره من الفقهاء.
وذكر في ( الجواهر )(2) في وجه التردّد: إن السرقة علّة للأمرين، فإذا قامت البينة عليها لم يعقل التفكيك بين المعلولين، وأجيب عن ذلك: بأن الأحكام الشرعية معرّفات لا علل حقيقة، ومعنى هذا الكلام: إن الأمور المذكورة في كلمات الشارع بعنوان العلّة ليست عللاً حقيقية يحكم العقل بامتناع الانفكاك بينها ، بل هي معرّفات.
أقول: إن العقل لا يمكنه إدراك أن الشيء الكذائي علّة للشئ الكذائي في الأحكام الشرعية، فلولا بيان الشارع أن الجنابة علّة لوجوب الغسل لم يدرك العقل ذلك، وحينئذ ، فلو جاء في كلامه أن الشيء الفلاني علّة للشيء الفلاني وجب التصديق بحكم الشارع بالعليّة، لكن الفرق بين العليّة المدركة بالعقل ـ كعليّة النار للحرارة ـ والعليّة الواردة في لسان الشارع هو أنه في الأوّل يستحيل التفكيك بين النار والحرارة إلا عن طريق الإعجاز، أما في الثاني، فإنه يمكن تخلّف ما جعل معلولاً عمّا جعل علّة، ولذا نرى أن الشارع قد يقول في مورد بعدم ترتب المعلول على العلّة، وهو يكشف عن عدم العليّة التامة….
إذن، ليست الأحكام الشرعية معرّفات، بل هي علل ومعاليل كسائر العلل والمعاليل الاخرى.
وعليه، فلو أقرّ الحاضر بالسرقة مرّتين ترتّب الأثران، وإن أقرّ مرةً واحدة يؤخذ منه حق الناس ولا يحكم عليه في حق الله، فلا يلزم أن نقول الأحكام الشرعيّة معرّفات، بل نقول هي علل، ولكن في هذا المورد العلّة لترتب الأمرين هو الإقرار مرّتين، والإقرار مرّة واحدة علّة لترتب أحد الأثرين، وذلك، لأن مبنى الشارع في الحدود الإلهيّة على التخفيف، فلابدّ من إقرارين، وأما في حقوق الناس فعلى الإحتياط، فيكفي الإقرار الواحد لأن يقضى عليه بالغرم.
هذا، ولكن مقتضى أدلّة القضاء عمومها بالنسبة إلى الحاضر والغائب ، وحينئذ، فلو سرق حكم بقطع يده وبالغرم معاً، لعموم الأدلّة، ودليل درء الحدّ بالشبهة لا يشمل هذا المقام، ولا مخصص تام سنداً ودلالة لتلك العمومات، فيقضى عليه في الحقّين بلا فرق ، إلا أن يكون هناك إجماع.

(1) شرائع الإسلام 4 : 86.
(2) جواهر الكلام 40 : 223.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *