وظائف الحاكم/1- التسوية بين الخصمين

كيفيّة مجلس الحكم

وفيها مقاصد:
الأوّل: في وظائف الحاكم.
الثاني: في مسائل متعلقة بالدعوى.
الثالث: في جواب المدّعى عليه.
الرابع: في كيفية الإستحلاف.

المقصد الأوّل
في وظائف الحاكم

الاُولى

( التسوية بين الخصمين )
قال المحقق: « التسوية بين الخصمين في السّلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم »(1).
أقول: جعله التسوية بين الخصمين من الوظائف ظاهره الوجوب(2) ، وبه صرّح في ( الجواهر )(3).
قال: « ولا تجب التسوية في الميل بالقلب، لتعذّره غالباً ».
أقول: وأما ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام من أنه « كان في بني إسرائيل قاض، وكان يقضي بالحق فيهم، فلما حضره الموت قال لامرأته: إذا أنا متّ فاغسليني وكفنيّني وضعيني على سريري وغطّي وجهي، فإنك لا ترين سوءاً ، فلمّا مات فعلت ذلك، ثم مكث بذلك حيناً، ثم إنها كشفت عن وجهه لتنظر إليه، فإذا هي ] هو [ بدودة تقرض منخره، ففزعت من ذلك.
فلمّا كان اللّيل أتاها في منامها فقال لها: أفزعك ما رأيت ؟
قالت: أجل، فقال لها: أما لئن كنت فزعت ، ما كان الذي رأيت إلاّ في أخيك فلان، أتاني ومعه خصم له، فلما جلسا إليّ قلت: اللهم اجعل الحق له ووجّه القضاء على صاحبه، فلما اختصما إلىّ كان الحق له ورأيت ذلك بيّناً في القضاء، فوجّهت القضاء له على صاحبه، فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان مع موافقة الحق »(4).
فقد حمله صاحب ( الجواهر )(5) على ضرب من الحثّ على المراتب العالية(6) .
قال: « هذا كلّه مع التساوي في الإسلام أو الكفر… ».
أقول: أي إنما تجب التسوية ـ على القول بها ـ مع التساوي بين الخصمين في الإسلام أو الكفر، أي كونهما مسلمين أو كافرين، وأما إذا كان أحدهما مسلماً ، جاز أن يكون الذمي قائماً والمسلم قاعداً أو أعلى منزلاً، قال في ( الجواهر ) « بلا خلاف، بل في الرياض أنه كذلك قولاً واحداً »(7).
قلت: أما العدل في الحكم، فلا خلاف بين المسلمين في وجوبه، حتى لو كان أحد الخصمين مسلماً والآخر كافراً، وهو صريح الكتاب(8) والأخبار المستفيضة إن لم تكن متواترة(9)… هذا إذا لم يكن في الحكم ضرر، وأما إذا كان فيه ضرر، فإن كان الضرر المترتّب متوجّهاً إلى حياة الحاكم، بمعنى أنه لو حكم بالعدل في القضية وقعت حياته في خطر، ترك الحكم بالعدل، ولكن ليس له الحكم بالباطل، وإن استلزم الحكم ضرراً على المدّعى عليه زائداً على أصل ما يقتضيه، لم يجب عليه إصدار الحكم حينئذ، وإن استلزم ضرراً على المدّعي، فإن كان باختيار نفسه فالأمر واضح، وإن كان الضرر يتوجّه إليه فيما إذا حكم له الحاكم من قبل المحكوم عليه، فلا يجب على الحاكم الحكم كذلك.
وإن تعارض ضرران على أثر حكم، كضرر الحاكم وضرر المحكوم عليه مثلاً، فقيل: مقتضى قاعدة نفي الضرر أن يحكم الحاكم بحيث يندفع الأشدّ، وفيه: إن مقتضى القاعدة أن لا يحكم الحاكم في القضية أصلاً.
وأما التسوية بين الخصمين المسلمين أو الكافرين في الامور الاخرى، كالسلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات ونحو ذلك، ففي وجوبها خلاف، ففي ( المسالك )(10) نسبة الوجوب إلى الأكثر، بل ادعى عليه الشهرة، وقد يستدلّ له بقوله تعالى: ( فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ )(11) ونحوه، بناءاً على أن التسوية بينهما في هذه الامور أيضاً من مقدّمات الحكم، فيكون معنى الآية وجوب العدالة في الحكم ومقدّماته.
بل قيل بوجوب التسوية بينهما في رد السّلام، فإن سلّم أحدهما قبل الآخر صبر حتى يسلّم الآخر ، فيردّ عليهما معاً مرّة واحدة بقوله: « عليكما السلام » إلا إذا طالت المدّة عرفاً، فيردّ السلام على الأوّل حينئذ.
أقول: لكن استفادة وجوب التسوية بينهما في هذه الامور من الآية الكريمة مشكلة.
واستدلّ أيضاً بروايات على وجوب التسوية كذلك:
1 ـ محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن عمرو بن أبى المقدام ، عن أبيه ، عن سلمة بن كهيل قال: سمعت علياً عليه السلام يقول لشريح . « … ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك، حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوّك من عدلك … »(12).
وهذه الرواية يبتني اعتبار سندها على القول بتصحيح ما يصحّ عن أحد الرواة الذين عرفوا بـ « أصحاب الإجماع »، فلا تقدح جهالة الراوي الذي هو بعده ، وهنا في سند هذه الرواية من أصحاب الإجماع: « الحسن بن محبوب »(13) ولولاه فهي غير معتبرة، لوجود « سلمة بن كهيل » فيه.
وأما من حيث الدلالة، فقد قال المحقق العراقي قدّس سرّه: يستفاد من تعليله عليه السلام التساوي بهذا المعنى عدم وجوبه، وكون الأمر إرشادياً، فلو حكم بالعدل واقعاً وعلم الخصمان بذلك واطمأنّا بذلك، لم يلزم مراعاة هذه الامور ، وكان في سعة بالنسبة إليها(14).
أقول: وما ذكره قدّس سرّه يتم بناءاً على كون « حتى » تعليلية، وأما بناءاً على كونها غائية، وأن الإمام عليه السلام قد ألزمه بالتسوية حتى لا يطمع… فلا، والظاهر هو الثاني، ولو سلّمنا كلامه، فإن العلّة لا ترفع الحكم، فلو قال: لا تشرب الخمر لأنه مسكر، لم يكن معناه عدم الحرمة عند عدم الإسكار، بل يحرم شربه حتى قليله الذي لا يسكر وحتى إذا مزج بالماء، كما روي فعله من بعض خلفاء الجور.
2 ـ عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لعمر ابن الخطاب: « ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفتك ما سواهنّ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شيء سواهن. قال: وما هنّ يا أبا الحسن ؟ قال: إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود.
قال عمر: لعمري ، لقد أوجزت وأبلغت »(15).
قال بعض أعلام العصر: إن قوله عليه السلام: « إن حفظتهن وعملت بهن كفتك ما سواهن، وإن تركتهن لم ينفعك شيء سواهن » يفيد عدم لزوم شيء آخر وراء ما ذكر(16).
وفيه: إن كانت الأخبار الدالّة على وجوب تلك الامور معتبرة سنداً ودلالة ، لم يجز لنا رفع اليد عن مداليلها بهذه الرواية، والمراد من هذه الرواية التأكيد على أهمية الامور الثلاثة، على أن من الواضح وجود أمور لا ريب في حرمة فعلها أو تركها على القاضي لم يذكرها الإمام عليه السلام في هذه الرواية، فتكون نظير قوله تعالى: ( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )(17) فإنه لا يقتضي خروج الصغائر عن كونها معاصي منهيّاً عنها.
3 ـ السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النظر وفي المجلس »(18).
والأمر ظاهر في الوجوب.
4 ـ السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: « إن رجلاً نزل بأمير المؤمنين عليه السلام، فمكث عنده أيّاماً، ثم تقدم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين عليه السلام فقال له: أخصم أنت ؟ قال: نعم. قال : تحوّل عنا، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى أن يضاف الخصم إلاّ ومعه خصمه »(19).
فإن المستفاد منه لزوم ترك كلّ أمر ينتزع منه الحبّ والإختصاص والّلطف لأحد الخصمين دون الآخر.
5 ـ عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « إذا تقدّمت مع خصم إلى وال أو إلى قاض فكن عن يمينه. يعني عن يمين الخصم »(20) أي كن إلى جنبه من طرف يمينه.
هذا، وقد اختار في ( الجواهر )(21) تبعاً لجماعة استحباب التسوية، فقال بعد أن أورد بعض هذه الأخبار، وذكر كلام صاحب ( الرياض ) في اعتبار أسانيدها وحجية بعضها: إلا أنه لا يخفى عليك ما فيه ، من دعوى اعتبار أسانيدها وحجية بعضها، لأنه مبني على أنه إن كان في السند أحد من أصحاب الإجماع لم تقدح جهالة الراوي بل وفسقه، والتحقيق خلافه … وحينئذ ، فقطع الاصول المعظمة بمثل هذه النصوص المنساق منها إرادة ضرب من الندب والكراهة ـ كما سمعت الفتوى بها في إضافة أحد الخصمين ـ مشكل، خصوصاً مع ظهور خبر سلمة في إرادة بيان الآداب في أحوال القاضي لا خصوص المتخاصمين الذي هو محلّ البحث، وصعوبة المساواة الحقيقية….
أقول: المراد من التسوية هي التسوية العرفية لا الحقيقية، وحيث أن القول بالوجوب قد حكي عليه الشهرة المطلقة بين الأصحاب، وهي الجابرة لضعف بعض هذه النصوص مع تصحيح بعضها الآخر بوقوع أحد أصحاب الإجماع في سنده، فالأظهر هو الوجوب، ومع التنزل فلا يترك الإحتياط.
وبما ذكرنا يندفع ما قاله بعض أعلام العصر من أن إيجاب التسوية يورث الوحشة في الحاكم ويوقعه في الحرج(22).
هذا، والظاهر أن ذكر تلك الامور في هذه الروايات هو من باب التمثيل، فلا مانع من التعدّي منها إلى غيرها، بل إن المستفاد من قوله عليه السلام « حتى لا يطمع قريبك في حيفك ولا ييأس عدّوك من عدلك » هو لزوم ترك كلّ أمر يورث طمع القريب في حيفه ويأس البعيد من عدله.

(1) شرائع الإسلام 4 : 90.
(2) جواهر الكلام 40 : 139.
(3) بل لقد نسبه في المستند إلى صريح المحقق، ويتضح ذلك من قوله بعدئذ: ولا تجب التسوية في الميل بالقلب لتعذره غالباً.
(4) وسائل الشيعة 27 : 225/2 . أبواب آداب القاضي ، الباب 9 . وهي بإسناد الشيخ الكليني قدّس سرّه صحيحة أو حسنة بإبراهيم بن هاشم القمي.
(5) جواهر الكلام 40 : 142.
(6) وفي المستند ( 17 : 115 ): إن المؤاخذة كانت على ما قاله بقوله: اللهم.. حيث أظهر بالّلسان ما كان في قلبه وإن لم يظهره على الخصمين. فتأمل. وقد استدل به في مفتاح الكرامة على استحبابها في صورة الإمكان، قال: نعم، إن أمكن ولو بجهد استحب كما أشار إليه في الدروس، لما رواه ثقة الإسلام والشيخ الطوسي في الأمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان في بني إسرائيل قاض… الكافي 5 : 556/10 ، التهذيب 6 : 222/2.
(7) ولما ذكره الأصحاب في كتبهم عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهودي في درع وقال: « لو كان خصمي مسلماً لجلست معه بين يديك، ولكن قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: لا تساووهم في المجلس ».
قال في المستند ( 17 : 116 ): وضعفه منجبر، وهل يختص ذلك بالمجلس أو يتعدى إلى غيره أيضاً ؟ الظاهر: التعدي كما اختاره في الروضة، وإليه ذهب والدي في المعتمد، واستقواه بعض المعاصرين، للأصل، واختصاص النصوص بحكم التبادر، واختصاص المورد بالمسلمين وخلوّ ما ظاهره العموم عن الجابر مع ضعفه.
(8) كقوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ) ( سورة النساء4 : 58 ) وقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )( سورة المائدة 5 : 2 ) وقوله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ) ( سورة ص 38 : 26 ).
(9) تجدها في الأبواب المختلفة من كتاب القضاء من وسائل الشيعة، ويدلّ عليه الروايات التي يستدل بها على وجوب التسوية بين الخصمين في أنواع الإكرام، وسيأتي ذكر بعضها.
(10) مسالك الأفهام 13 : 428.
(11) سورة ص : 26.
(12) وسائل الشيعة 27 : 211/1 . أبواب آداب القاضي ، الباب 1.
(13) أي بناء على عدّ الكشي إيّاه منهم، وهذا نص كلامه: « تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبرهيم وأبي الحسن الرضا عليهما السلام: أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم وأقرّوا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر اُخر دون الستة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله عليه السلام، منهم : يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بياع السابري، ومحمد بن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة ، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمد بن أبى نصر. وقال بعضهم مكان « الحسن بن محبوب »: الحسن بن علي بن فضال، وفضالة ابن أيوب، وقال بعضهم مكان فضالة بن أيوب: عثمان بن عيسى. وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى » رجال الكشي: 466.
(14) كتاب القضاء.
(15) وسائل الشيعة 27 : 212/2 . أبواب آداب القاضي ، الباب 1. وهو للكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن مرار عن يونس عن عبيد الله بن علي الحلبي عن الصادق عليه السلام. وفيه « إسماعيل بن مرار » وهو مختلف فيه، فقد ذكر في تنقيح المقال ( 1 : 144 ) عدّ الشيخ إياه في باب من لم يرو عنهم عليهم السلام ساكتاً عليه، ولم ينقل عن النجاشي فيه شيئاً، ثم ذكر عن المحقق الوحيد البهبهاني قدّس سرّه توثيقه ووافقه عليه، أما السيد الخوئي ( 4 : 96 ) دام ظلّه، فقد ذكر كلام الوحيد ولم يوافقه. فراجع.
(16) جامع المدارك : 6/21 .
(17) سورة النساء 4 : 31.
(18) وسائل الشيعة 27 : 214/1 . أبواب آداب القاضي ، الباب 3 . وهو للكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي ـ وهو الحسين بن يزيد ـ عن السكوني ـ وهو إسماعيل بن أبي زياد ـ عن أبي عبد الله عليه السلام. ولقد كثر البحث عن وثاقة النوفلي والسكوني بين الأعلام، إذ لم ينص قدماء الرجاليين على توثيق لهما. نعم، عن الشيخ في كتاب العدّة دعوى إجماع الطائفة على العمل بروايات السكوني ( العدّة في اصول الفقه 1 : 49 ). نعم، هما معاً من رجال كتاب كامل الزيارات بناءً على أنه قد التزم فيه بالرواية عن الثقات، فلاحظ. وتأمل.
(19) وسائل الشيعة 27 : 214/2 . أبواب آداب القاضي ، الباب 3 . بالاسناد المتقدّم.
(20) وسائل الشيعة 27 : 218/1 . أبواب آداب القاضي ، الباب 5 ، وهو خبر صحيح .
(21) جواهر الكلام 40 : 141.
(22) جامع المدارك : 6/20.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *