الاولى: هل للقاضي أن يحكم بعلمه ؟

مسائل

هل للقاضي أن يحكم بعلمه ؟ * حكم ما لو لم يعرف الحاكم عدالة البينة * هل للحاكم الثاني نقض حكم الاول ؟ * في تتبع الحاكم حكم من قبله * في دعوى إن المعزول حكم عليه بشهادة فاسقين * في تعدد وعدالة مترجم الحاكم * في شرائط كاتب القاضي. فروع حول عدالة الشاهدين * في تفريق الشهود عند الشهادة * فيما يعتبر في الشهادة بالجرح * في الحكم باستمرار العدالة حتى تبين ما ينافيها * في كتابة الحاكم قضايا كلّ اسبوع * هل يجب عليه كتابة المحضر ؟ * يكره له أن يعنت الشهود * لا يجوز له أن يتعتع الشاهد * يكره له أن يضيف أحد الخصمين * في حرمة الرشوة * في إحضار الخصم إلى مجلس القضاء.

المسألة الاولى

( هل للقاضي أن يحكم بعلمه ؟ )

قال المحقق قدّس سرّه: « وهنا مسائل : الأولى: الإمام على السّلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس، وفي حقوق الله تعالى على قولين، أصحّهما القضاء. ويجوز أن يحكم في ذلك كلّه من غير حضور شاهد يشهد الحكم »(1).
أقول: أما حكم قضاء الإمام بعلمه، فلا ثمرة للبحث عنه(2) إلاّ من جهة أنه إذا ثبت أن الإمام عليه السلام لا يقضي بعلمه ثبت عدم جواز القضاء لغيره من القضاة بعلمه بالأولويّة، ولكن قد وجدنا أنه قد قضى بعلمه في بعض الموارد، إلاّ أن هذا بوحده لا يكفي للقول بجوازه لغيره كما لا يخفى، بل لابدّ من ملاحظة الأدلّة بالنسبة إليه.
وأما غير الإمام من القضاة، فلا كلام ولا إشكال في حكمه بعلمه في الشبهات الحكميّة، فلو تنازع الولد الأكبر مع سائر الورثة في حكم الحبوة ـ لاختلاف فتوى مقلديهما في المسألة ، فرضي الطرفان بالترافع عند مجتهد ثالث، حكم بينهما بما رآه، ولزم عليهما قبول حكمه.
وإنما الكلام في الشبهات الموضوعيّة ، كما إذا تنازع زيد مع عمرو في مال، وعلم القاضي بأنه لزيد، فهل له أن يحكم بعلمه من دون بينة أو إقرار أو لا ؟ الحق هو الأوّل، وفاقاً للمشهور بل حكي الإجماع عليه عن جماعة من الأكابر، وقد حكي عن بعضهم التفصيل بين حق الله وحق الناس، فأجازه في الأوّل دون الثاني ، وعن آخر التفصيل على عكسه، لما تقرّر في محلّه في القطع الموضوعي، من أنه إذا أخذ القطع في موضوع الحكم بما هو طريق له، قامت الإمارة مقامه في العمل ـ بخلاف ما إذا أخذ بما هو صفة خاصة قائمة بالشخص ـ فإذا كان الظن الحاصل من البيّنة بما هي طريق يترتب عليه الأثر لحجيّتها، فإن العلم أقوى من البينة ، فيجب ترتيب الأثر عليه بالأولويّة(3).
ويدلّ عليه ـ بعد الإجماع ـ ما ذكروه من استلزام عدم القضاء به فسق الحاكم، أو إيقاف الحكم، واستلزامه عدم وجوب إنكار المنكر، وعدم وجوب إظهار الحق مع إمكانه أو الحكم بعلمه.
ويدلّ عليه أيضاً: عموم ما دلّ على الحكم بالحق والقسط والعدل، فإذا علم بكون المال لزيد وجب عليه الحكم بذلك وكان على عمرو قبوله.
وأشكل المحقق العراقي قدّس سرّه على الاستدلال بهذه العمومات بأن التمسك بها فرع كون المراد من الحكم والحق والقسط والعدل هو الحكم والحق وأخويه في نفس الواقعة، ولازمه حينئذ كون القضاء من آثار نفس الواقع لا من آثار الحجة عليه، ولكن لا يخفى أن مثل هذا المعنى ينافي ما في قوله: « رجل قضى بالحق وهو لا يعلم »، إذ الظاهر منه عدم جواز مثل هذا القضاء لا وضعاً ولا تكليفاً ….
ويمكن رفع المنافاة : بأنه وإن كان ظاهر العمومات كون الواقع تمام الموضوع للحكم، لكن هذه الرواية تقضي باعتبار أمر آخر مع ذلك، وهو كون القاضي عالماً بالواقع، فيكون مجموع الأمرين هو الموجب لنفوذ الحكم وفصل الخصومة.
وأما حمل الرواية على بيان شرطية العلم في أصل القضاء، أو إثبات العقوبة على مثل هذا القاضي ، من جهة تجرّيه على القضاء بغير علم وإن كان نافذاً، فخلاف الظاهر.
فيكون حاصل الجمع: إن الحكم النافذ هو الحكم المطابق للواقع مع علم الحاكم بهذه المطابقة ، وإن كان هذا العلم جهلاً مركباً في نفس الأمر، ومع شك المتخاصمين بكون الحاكم عالماً بالواقع فلا ينفذ، لكن لا يشترط علمهما بالمطابقة، ومع علمهما بعدم المطابقة ، فيؤثّر الحكم في رفع الخصومة خاصة ، فظهر أن العلم بوصف الطريقيّة جزء لموضوع الحكم، وتقوم البيّنة والأيمان مقامه مع عدمه، مع الفرق بينهما من جهة أن العلم حجة بذاته ولا سبيل للجعل إليه، بخلافهما.
هذا، ولكنّ المستفاد من طائفة من آيات الكتاب العظيم كقوله تعالى : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )(4)وقوله تعالى: ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ )(5) أن على الحاكم أن يحكم « بما أنزل الله »، وظاهر ذلك أن « ما أنزل الله » هو موضوع الحكم بين الناس، ومع العلم به يجب الحكم بحسبه عقلاّ ، وإلاّ لم يجز الحكم لأنه افتراء على الله تعالى، فموضوع الحكم هو الواقع فقط، فإن علم به حكم بحسبه ، ومع عدم العلم لم يجز له الحكم عقلاً ولا شرعاً.
وأما البيّنات والأيمان، فلا تحمل على ما هو الغالب كما قال في ( الجواهر ) ، بل إنها طريق شرعي لإحراز الموضوع ـ وهو الواقع ـ عند عدم العلم به، فلا دخل للعلم ولا للبيّنات والأيمان في فصل الخصومة.
وأما قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قضية الملاعنة: « لو كنت راجماً من غير بيّنة لرجمتها » الظاهر في توقف الرّجم على البيّنة بالرغم من علمه بالواقع، فلا يمكن حمله على مورد الشك.
فقد أجيب عنه بعدم ثبوته من طرقنا، ومع التسليم ، فلا مانع من قيام الدليل على عدم ترتيب الأثر على العلم في إجراء بعض الحدود، بل للشارع أن لا يرتّب الأثر على الواقع في مورد ، وإن كان المستفاد من آيات الكتاب كون الحكم من آثار الواقع.
وأما المتخاصمان، فلا يحكم عليهما بالعمل بما أنزل الله، بل عليهما العمل بالحكم وتنفيذه، نعم، لا يكلّفان بذلك في صورة علمهما بالخلاف، نعم، الحكم يفصل الخصومة بينهما.
هذا، وقد استثنى القائلون بالمنع صوراً من القضاء بالعلم، فأفتوا فيها بالجواز.
منها: تزكية الشهود وجرحهم.
قلت: قد يقال بترتب الأثر هنا شرعاً على إقامة البينة للتعديل، وأنه لا يكفي علم القاضي بالعدالة، ولكن يندفع هذا باستلزامه للدور أو التسلسل، على أنه قد حكي الإجماع على الجواز في هذه المسألة.
ومنها: تعزير من أساء الأدب في مجلس القضاء وإن لم يعلم به غير القاضي حتى لا تقلّ أبّهة القضاء.
ومنها: الإقرار في مجلس القضاء وإن لم يسمعه غير الحاكم.
أقول: أما نحن ، ففي سعة من إقامة الدليل على الجواز في هذه الموارد، إذ المختار هو الجواز مطلقاً، لكن على من استثناها بيان ذلك(6).

(1) شرائع الإسلام 4 : 75.
(2) ذكروا أن للإمام أن يقضي بعلمه مطلقاً، أي في حق الله وحق الناس، واستدلّوا لذلك بالكتاب والسنّة والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ )( سورة ص 38 : 26 ). ومن السنّة بأخبار منها: ما رواه الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام ـ وقد وصفوه بالشهرة ـ قال: « جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فادّعى عليه سبعين درهماً ثمن ناقة باعها منه. فقال: قد أوفيتك. فقال: اجعل بيني وبينك رجلاّ يحكم بيننا، فأقبل رجل من قريش فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اُحكم بيننا، فقال للأعرابي: ما تدّعي على رسول الله ؟ فقال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله ؟ فقال: قد أوفيته، فقال للأعرابي: ما تقول ؟ فقال: لم يوفني، فقال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألك بينة أنك قد أوفيته ؟ قال: لا، فقال للأعرابي: أتحلف أنك لم تستوف حقك وتأخذه ؟ فقال: نعم، فقال رسول الله: لأتحاكمّن مع هذا إلى رجل يحكم بيننا بحكم الله، فأتى علي بن أبي طالب عليه السلام ومعه الأعرابي، فقال علي عليه السلام: مالك يا رسول الله ؟ قال: يا أبا الحسن، اُحكم بيني وبين هذا الأعرابي، فقال علي عليه السلام: يا أعرابي ما تدّعي على رسول الله ؟ قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه. فقال: ما تقول يا رسول الله ؟ قال: قد أوفيته ثمنها. فقال: يا أعرابي أصدق رسول الله فيما قال ؟ قال الأعرابي: لا ما أوفاني شيئاً. فأخرج علي سيفه فضرب عنقه. فقال رسول الله: لم فعلت يا علي ذلك ؟ فقال: يا رسول الله، نحن نصدّقك على أمر الله ونهيه ، وعلى أمر الجنة والنار والثواب والعقاب ووحي الله عزّ وجل، ولا نصدّقك على ثمن ناقة الأعرابي، وإني قتلته لأنه كذّبك لما قلت له: أصدق رسول الله. فقال: لا ما أو فاني شيئاً. فقال رسول الله: أصبت يا علي ، فلا تعد إلى مثلها . ثم التفت إلى القرشي وكان قد تبعه فقال: هذا حكم الله لا ما حكمت به » .
ومنها: ما رواه الصّدوق بإسناده عن ابن عباس، وذكر قضية عن أمير المؤمنين عليه السلام نحو القضية المذكورة.
ومنها: ما رواه الصّدوق بإسناد عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عمّه: « أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ابتاع فرساً من أعرابي فأسرع ليقضيه ثمن فرسه فأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ابتاعها، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم، فنادى الأعرابي فقال: إن كنت مبتاعاً لهذا الفرس فابتعه وإلاّ بعته، فقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين سمع الأعرابي فقال: أو ليس قد ابتعته منك ؟ فطفق الناس يلوذون بالنبي وبالأعرابي وهما يتشاجران، فقال الأعرابي: هلمّ شهيداً يشهد أني قد بايعتك، ومن جاء من المسلمين قال للأعرابي : إن النبي لم يكن يقول إلاّ حقاً، حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع لمراجعة النبي للأعرابي فقال خزيمة: إني أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي على خزيمة فقال: بم تشهد ؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله شهادة خزيمة بن ثابت شهادتين وسمّاه ذا الشهادتين ».
وهذه الأخبار تجدها في وسائل الشيعة 27 : 274 . أبواب كيفية القضاء ، الباب 18.
ومنها: خبر درع طلحة المذكور سابقاً.
واستدلّ له أيضا بفحوى الأدلّة الدالّة على قضاء غير الإمام بعلمه، وبأن عصمة الإمام تمنع من التهمة، وبوجوب تصديق الإمام في كلّ ما يقول.
وأما الإجماع، فقد حكي عن كتب جماعة من الأصحاب ، كالإنتصار والخلاف والغنية والإيضاح وغيرها .
هذا، وربما نقل الخلاف في هذه المسألة عن بعض القدماء.
(3) وأشكل عليه بعدم معلومية العلة في البينة حتى يقاس عليها العلم.
(4) سورة المائدة 5 : 47 .
(5) سورة المائدة 5 : 49.
(6) وأما قول المحقق في آخر المسألة: ويجوز أن يحكم…
فالمراد منه أنه لا يشترط في حكمه بعلمه حضور شاهد يشهد الحكم. وهو إشارة إلى خلاف بعض العامة .
وفي القواعد: لكن يستحب.
قال شارحوه: دفعاً للتهمة، لكن في الجواهر: لم نتحقق دليله…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *