نفوذ قضاء الفقيه في زمن الغيبة

نفوذ قضاء الفقيه في زمن الغيبة:
قال المحقق: « ومع عدم(1) الإمام ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت(2) ، ولو عدل والحال هذه إلى قضاة الجور كان مخطئاً »(3).
أقول: وفي ( الجواهر ): نعم لو توقف حصول حقّه عليه ولو لامتناع خصمه عن المرافعة إلاّ إليهم جاز(4).
وقال السيد قدّس سرّه في ( العروة ): لا يجوز الترافع إلى قضاة الجور اختياراً، ولا يحلّ ما أخذه بحكمهم إذا لم يعلم بكونه محقاً إلا من طرف حكمهم، وأمّا إذا علم بكونه محقاً واقعاً فيحتمل حليتّه(5).
أقول: لكن الرواية(6) تدل على عدم جواز الأخذ بحكمهم وإن كان حقاً ، إلاّ أن تحمل الرواية على صورة شكّه بكونه محقاً، وأن أخذه بحكمهم حالكونه شاكاً غير جائز، فإن تم هذا الحمل لم تشمل الرواية صورة العلم ولم يبعد كلام السيد قدّس سرّه.
وعن ( الكفاية )(7): إن حكم الجائر بينهما فعل محرم والترافع إليه يقتضي ذلك، فيكون إعانة على الإثم وهي منهي عنها.
وأجاب في (الجواهر) بمنع كونه إعانة أوّلاً، ومنع حرمتها ثانياً…
أقول: أما الحكم، فإنه يصدر من القاضي اختياراً، وليس الترافع إليه إعانة عليه، لأنه ليس له أثر في تحققه ـ فليس من قبيل إعطاء السوط لأجل الضرب ظلماً ـ وإن كان لولاه لما صدر الحكم منه، فهو كأن يقول لزيد: أقتل عمراً، فإن كلامه هذا ليس مؤثّراً في تحقق القتل ، مع فرض اختيار زيد وقدرته على الترك. هذا وجه ما ذكره أوّلاً. ووجه ما ذكره ثانياً هو: دعوى انصراف رواية ابن حنظلة المشار إليها إلى صورة عدم توقف إنقاذ الحق وإحقاقه على الترافع إليه، فيكون حكمه في هذا المورد الخاص غير محرم، وإن كان في سائر الموارد حراماً، وإذ ليس هذا الحكم إثماً ، فليس الترافع إليه إعانة على الإثم.
هذا إن أراد عدم حرمة الحكم.
ويمكن أن يراد عدم حرمة هذه الإعانة على هذا الإثم، نظير ما إذا رجع إلى جائر لإنقاذ حقه من غاصب، فلو ضرب الجائر الغاصب واسترجع الحق منه ، كان رجوعه إليه إعانة على الإثم ـ إذ لو لم يرجع إليه لما ضربه ـ ولكنها والحال هذه ليست إعانة محرّمة، نظير ضرب اللّص المتوقف عليه دفعه وحفظ المال.
أقول: لكن مقتضى ذلك ، هو القول بعدم حرمة هذا الضرب أيضاً.
هذا، واستدلّ في (الجواهر) بخبر علي بن محمد قال: « سألته هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منّا في أحكامهم ؟ فكتب عليه السلام : يجوز لك ذلك إن شاء الله ، إذا كان مذهبكم فيه التقية والمداراة لهم »(8) قال: بناءاً على ما في ( الوافي )(9) من أن : المراد هل يجوز لنا أن نأخذ حقوقنا منهم بحكم قضاتهم كما يأخذون منا بحكم قضاتهم. يعني إذا اضطر إليه كما إذا قدمه الخصم إليهم.
أقول: إن كان هذا معنى الرواية، فستكون معارضة لرواية ابن حنظلة الدالّة على أن المأخوذ بحكمهم سحت وإن كان حقاً ثابتاً، إلاّ أن تحمل تلك على صورة التمكن من إنقاذ الحق من طريق آخر، وتحمل هذه على صورة الإنحصار والضرورة، أو تحمل هذه على صورة العلم بكونه محقاً، وتلك على صورة الجهل أو الشك بكونه حقاً له، كما تقدم.
ويحتمل أن يكون المراد: إنهم يقولون ـ مثلاً ـ بصحة الطلاق ثلاثاً في المجلس الواحد ، ونحن نقول ببطلانه، فهل يجوز لنا أن نحكم عليهم طبق أحكامهم وفتاواهم ونعاملهم بحسبها؟ فتكون نظير « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.. »(10) وتخرج بذلك عن مبحث القضاء.
وعن علي بن الحسين عليهما السلام : « إذا كنتم في أئمة الجور فامضوا في أحكامهم ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا وإن تعاملتم بأحكامنا كان خيراً لكم »(11).
ومورد هذه الرواية خصوص حال التقية، والعبادات في تلك الحال صحيحة نصاً وفتوىً، وأمّا المعاملات، فلو عامل طبق أحكامهم تقية فهل تصح حالكونها باطلة عندنا ؟
قال في (الجواهر): لم يحضرني الآن كلام للأصحاب بالخصوص(12).
أقول: وكيف كان، فهي واردة في حال التقية، ولا مناسبة لها بمورد انحصار طريق الاستنقاذ بذلك، إلا إذا كان الإنحصار من جهة التقية، فهي دالّة على الجواز حينئذ. وفي (المسالك): « يستثنى منه ما لو توقّف حصول حقّه عليه ، فيجوز كما يجوز الاستعانة على تحصيل الحق بغير القاضي، والنهي في هذه الأخبار وغيرها محمول على الترافع إليهم اختياراً مع إمكان تحصيل الغرض بأهل الحق، وقد صرّح به في خبر أبي بصير(13)عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « في رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه ، فأبى إلاّ أن يرافعه إلى هؤلاء ، كان بمنزلة الذين قال الله عزوجل: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ )(14) الآية »(15).
أي : فإنها ظاهرة بل صريحة في اختصاص النهي عن الترافع إليهم ، بصورة التمكن من الترافع إلى القاضي العدل، وقد وافقه في (الجواهر) على ذلك وأضاف: بأن الإثم حينئذ على الممتنع.
وقد استدلّ لجواز الترافع إلى الجائر ـ حتى مع التمكن من العادل إن كان عالماً بكونه محّقاً ـ بخبر ابن فضال قال: « قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني عليه السلام ـ وقرأته بخطّه ـ سأله: ما تفسير قوله تعالى: ( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ )(16) فكتب بخطّه: الحكّام: القضاة. ثم كتب تحته: هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم »(17).
أقول: والتحقيق أنه لولا أدلّة النهي المطلقة، لحكمنا بجواز الترافع إلى قضاة الجور مع العلم بالحق أو الشك، سواء تمكن من الترافع إلى العادل أو لا، بمقتضى الآية الكريمة والرواية الواردة في ذيلها، لكن الآية مطلقة وتلك الأدلّة واردة في خصوص قضاة الجور، وأنه لا يجوز الترافع إليهم حتى مع العلم بالحق أو الشك فيه ، فمقتضى الجمع جواز الرجوع إلى الحاكم الجائر في صورة العلم أو الشك بكونه محقاً، مع عدم التمكن من الترافع إلى القاضي العادل، وأما في صورة العلم بالخلاف فلا يجوز مطلقاً، كما لا يجوز الترافع إلى قضاة الجور في صورة التمكن من العادل حتى مع العلم بكونه محّقاً.
واستدلّ المحقق الآشتياني للجواز ـ في صورة توقّف أخذ الحق على التحاكم إلى قضاة الجور ـ بقاعدة نفي الضرر والضرار في الشريعة(18).
وفيه: إن قاعدة نفي الضرر لا ترفع الضرر، أي: إن الحكم بحرمة الترافع إليهم في صورة التوقف ضرري، ولكن لا دلالة للقاعدة على كون عدم نفوذ حكمه حينئذ ضررياً كذلك، فلا تقتضي القاعدة هذه إلا رفع الحرمة التكليفية، وأيضاً: إن كان معنى « السحت » في قوله عليه السلام: « وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً »(19)بمعنى الإثم رفعته قاعدة نفي الضرر، وأما إن كان بمعنى حرمة الأكل، فإنه حكم ضرري مجعول، ومن المعلوم أن القاعدة لا ترفع الحكم الضرري المجعول.

(1) أي عدم حضوره ، وفي نسخة : ومع غيبة الامام ….
(2) من الأخبار التي يستدل بها على نفوذ حكم الفقيه من فقهاء أهل البيت عليهم السلام في زمن الغيبة ـ بغض النظر عن البحث في المراد من « الفقيه » فيها ـ خبر أبي خديجة الذي ذكره المحقق في المتن.
ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة الذي جاء فيه: « ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله. قال: فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا.. فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما… ».
ومنها: خبر داود بن الحصين: « في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في الحكم وقع بينهما فيه اختلاف… فقال: ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه، ولا يلتفت إلى الآخر ».
ومنها: خبر النميري، فقد جاء فيه: « ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه ».
ومنها: التوقيع الشريف: « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا.. ».
راجع أبواب صفات القاضي من وسائل الشيعة.
(3) للنهي عن ذلك في النصوص المعتبرة الكثيرة، كخبر أبي خديجة ومقبولة عمر بن حنظلة وخبر أبي بصير ونحوها مما هو مذكور في الباب الأوّل من أبواب صفات القاضي من وسائل الشيعة.
(4) جواهر الكلام 40 : 35.
(5) العروة الوثقى 3 : 9.
(6) يعني رواية عمر بن حنظلة قال: « سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك ؟ فقال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له، فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ )الحديث. وسائل الشيعة 27 : 13/4 . أبواب صفات القاضي ، الباب 1 . وقد تقدّم الكلام فيما يتعلّق بالسند.
(7) كفاية الأحكام 2 : 664.
(8) كذا في الجواهر المطبوع ( 40 : 35 )، وفي الوسائل:… عن علي بن مهزيار عن علي بن محمد عليهما السلام قال: سألته… باختلاف يسير . وسائل الشيعة 27 : 226/1 . أبواب آداب القاضي ، الباب 11.
(9) الوافي 11 : 904.
(10) التهذيب 9 : 322/1156.
(11) وسائل الشيعة 27 : 14/7 . أبواب صفات القاضي ، الباب 1 ، وهو للصدوق قدّس سرّه بإسناده عن عطاء بن السائب عن علي بن الحسين عليه السلام. وفي تنقيح المقال 2 : 253 : قد وقع الرجل في طريق الصدوق في باب من يجوز التحاكم إليه، وهو غير مذكور في الكتب الرجالية لأصحابنا.
(12) جواهر الكلام 40 : 36.
(13) وسائل الشيعة 27 : 11/2 . أبواب صفات القاضي ، الباب 1 .
(14) سورة النساء 4 : 60.
(15) مسالك الأفهام 13 : 335.
(16) سورة البقرة 2 : 188.
(17) وسائل الشيعة 27 : 15/9 . أبواب صفات القاضي ، الباب 1.
(18) كتاب القضاء : 21.
(19) وسائل الشيعة 27 : 13/4 . أبواب صفات القاضي ، الباب 1 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *