كلمة المؤلّف في الطبعة الاولى

كلمة المؤلّف في الطبعة الاولى

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، لا سيما خليفة الله في الأرضين ، الإمام الثاني عشر الحجة ابن الحسن العسكري أرواحنا فداه، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
أللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة.
وبعد:
فإن لكلّ موجود من الموجودات التي يشاهدها الإنسان نظاماً دقيقاً متقناً يسير عليه ولا يحيد عنه، وذلك (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء)(1)، كما يشاهد الإنسان كذلك نظاماً كليّاً محكماً وسنناً إلهية ثابتة تخضع لها الكائنات بأسرها، وتلك سنّة الله (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً )(2).
ولم يكن الإنسان الذي خلقه الله تعالى وكرّمه وفضّله على كثير ممن خلق ـ كما قال عزّ من قائل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا )(3) ـ بدعاً من سائر الموجودات من هذه الناحية، بل إن الإنسان أحق وأولى منها في أن يكون له نظام، لأن الموجودات الاخرى قد خلقت لأجله ، وسخّرت له ، وجعلت تحت سلطنته، لتعينه على السير في الصراط المستقيم المرسوم له، حتى يصل إلى الغاية المنشودة التي لأجلها خلق.
فكان لابدّ للإنسان أيضاً من نظام يحدّد له تصرّفاته في مختلف شئونه الخاصّة منها والعامّة، ويتناسب مع شتّى حالاته، وذلك النظام هو الذي يعبّر عنه بـ (الدين)، ويعرف بأنه (ما شرع الله لعباده على لسان رسله )، حتى بعث سيدنا ومولانا محمد المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان ما جاء به هو النظام الأتم والقانون الأدق ، ومن ثمّ كان خاتم النبيين وكان هذا الدين خاتمة الأديان.
إن الدين الإسلامي هو النظام الوحيد الذي يستجيب لنداء الإنسان ويتلائم مع فطرته التي خلق عليها، وإنه النظام الذي يتكفّل سعادة الإنسان ورقيّه إلى أعلى درجات الكمال، ويأخذ بيده إلى ما فيه خيره في عاجله وآجله.
لقد اهتمّ الدين الإسلامي بكلّ ناحية من نواحي الحياة الإنسانية بالقدر اللاّزم من الإهتمام، وعلى هذا الأساس، بذل بالنسبة إلى صيانة حقوق الإنسان وحفظ النظام العام إهتماماً بالغاً، للأهميّة الكبيرة لهذه الناحية من حياة الإنسان، فشرّع لها القوانين الحقوقية الثابتة، وحدّد علاقة الإنسان بالإنسان ، وما يجب له وعليه تجاه الآخرين، وصلة الفرد بالمجتمع وحدود المسؤوليات الفرديّة والإجتماعية، إلى غير ذلك من المسائل المتعلّقة بهذا المجال من مجالات الحياة.
وقد أشارت الآية الكريمة: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ … )(4)إلى طريقة الإسلام في معالجة المشاكل التي تعرض الإنسان والمجتمع في هذا المقام. وتوضيح ذلك بإيجاز هو:
إن الغرض من خلق الإنسان هو إيصاله عن اختيار إلى الكمال المعنوي والفوز برضى الله عز وجل والقرب منه، وذلك لا يتحقق إلاّ بتنمية الروح الإنسانية المودعة فيه، وفطرته السليمة التي خلق عليها، وتعديل الغرائز المختلفة الكائنة فيه، فأرسل الله سبحانه رسله بالبيّنات وأنزل معهم الكتاب والحكمة والميزان لتحقيق هذا الغرض، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: « إنما بعثت لاُتممّ مكارم الأخلاق »(5)، فجاء بتعاليم أخلاقيّة سامية، وعلّم الكتاب والحكمة، ودعا إلى تهذيب النفوس، وأمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد نجح ـ إلى حدّ بعيد ـ في هذا المجال، فكان في نفس كلّ إنسان ـ مسلم متأدّب بآدابه ـ وازع داخلي يمنعه من الإقتراب من أموال الآخرين، والنيل من أعراضهم والتعدّي على حقوقهم.
وقد جعل في الشريعة الإسلامية ـ إلى جانب ذلك ـ الأحكام القضائية والقوانين الجزائية، لتكون سدّاً أمام من لم ينتفع بالآيات والحكم ، ولم تؤثر فيه المواعظ والآداب، فمال مع غرائزه النفسانية التي تحمل الإنسان على أن لا يقتنع بحقوقه، وتدفعه إلى الظلم والتعدي على حقوق الآخرين، فجعل (القاضي ) لأن يكون مرجعاً للناس لفصل الخصومات وقطع المنازعات، وجعل (الحديد) فيه بأس شديد ، تستأصل به جذور الفساد وعناصر البغي في المجتمع.
ومن وقف على جزئيّات تلك التشريعات في الفقه الجعفري، عرف مدى الدقّة المبذولة فيها من جهة، ومدى تلائمها مع الفطرة الإنسانية من جهة أخرى، ولا عجب، فإنها تشريعات متّخذة من أخبار أهل بيت الوحي والرسالة، وهي مستمّدة من جدّهم عن الله عزّ وجل العالم الخبير بما يصلح شأن العباد وينظم أمورهم، وذلك قوله تعالى: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(6).
وحينئذ ، يسقط عن الإعتبار والإعتماد سائر التشريعات المنسوبة إلى السماء ، فكيف بالقوانين الوضعيّة الحديثة ؟.
فشكر الله سعي علمائنا الأبرار الذين نقّحوا هذه المسائل، ورووا أخبارها وجمعوا آثارها، وكتبوا هذه البحوث العلمية الراقية ، ودرّسوها وخلّدوها إلى يومنا الحاضر.
وعندما انبثقت الثورة في بلادنا ضد النظام الإمبراطوري ، وأطاحت به، وطالبت الاُمة بالعودة بها إلى أحكام الإسلام، وأقيمت المحاكم الشرعيّة ، قام سيّدنا الاستاذ الأكبر فقيه الامّة وزعيم الحوزة العلمية، المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى الحاج السيد محمدرضا الموسوي الگلپايگاني دام ظلّه الوارف ، بتدريس « كتاب القضاء »(7) لإعداد ثلّة من الفضلاء للتأهّل بتولّي هذا المنصب الخطير.
والحق إنها بادرة منه ـ دام ظله ـ جديرة بالتقدير، فإن القضاة إذا صلحوا وساروا على النهج الصحيح، وحكموا بالحق وهم يعلمون، وأقاموا العدل، قام المجتمع بالقسط وساده الأمن وانتشر فيه الصلاح، وأما إذا تولّى القضاء من ليس أهلاً له، أو اتّبع هواه عند الحكم ، أو جار فيه، انتشر الفوضى واختل النظام وفسدت البلاد والعباد.
هذا، وقد وفّقت لتدوين ما يلقيه سيّدنا الاستاذ في بحثه الشريف، وعرضته عليه ، فلاحظه وأقرّه، فلمّا اكتمل ، استأذنته في نشره ـ نزولاً عند رغبة بعض الزملاء الأفاضل ـ فأذن بذلك.
وإني إذ أقدّم هذا المجهود العلمي ـ مع تعليقات على بعض مواضعه ـ إلى زملائي الفضلاء وإخواني العلماء، أسأل الله عزّ وجلّ أن يمنّ علينا بدوام وجود سيدنا الاستاذ، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب.

علي الحسيني الميلاني
قم المقدّسة ـ الحوزة العلمية
18 رمضان المبارك 1401

(1) سورة النمل 27 : 88.
(2) سورة الأحزاب 33 : 62.
(3) سورة الإسراء 17 : 70.
(4) سورة الحديد 57 : 25 .
(5) مجمع البيان 5 : 333.
(6) سورة الملك 67 : 14.
(7) وقد كان بحثه سابقاً في كتاب البيع، وطبع الجزء الأوّل منه بتقريرنا باسم (بلغة الطالب في التعليق على بيع المكاسب).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *