بين الشافعي وتلامذة أبي حنيفة

بين الشافعي وتلامذة أبي حنيفة
ولو أنّ أحداً من الحنفيّة جوّز لنفسه الطعن والتشنيع على هؤلاء الأئمة والتكذيب لهم، فليس له أن يقدم على تكذيب الشافعيّ نفسه، لأنّه أحد أركان الدين عند أهل السنّة كلّهم، وقد جاء في غير واحد من الكتب طعن الشافعي على أبي حنيفة وأصحابه وفتاواه، فالسبكي يروي في (طبقات الشافعية) عن إمامه الشافعي أنّه قال:
«كتب مطرف بن مازن إلى هارون الرشيد: إن أردت اليمن لا يفسد عليك ولا يخرج من يديك، فأخرج عنه محمّد بن إدريس ـ وذكر أقواماً من الطالبيّين ـ قال: فبعث إليَّ حمّاد البربري، فاُوثِقْتُ بالحديد حتّى قدمنا على هارون بالرقّة. قال: دخلت على هارون. قال: فاُخرجت من عنده. قال: وقدمت ومعي خمسون ديناراً. قال: ومحمّد بن الحسن يومئذ بالرقّة. قال: فأنفقت تلك الخمسين ديناراً على كتبهم. قال: فوجدت مثلهم ومثل كتبهم مثل رجل كان عندنا يقال له فروخ وكان يحمل الدهن في زقّ له، فكان إذا قيل له عندك فرستان؟ قال: نعم. فإن قيل عندك زنبق؟ قال: نعم، فإذا قيل له: أرني ـ وللزق رؤوس كثيرة ـ فيخرج من تلك الرؤوس وإنّما هي من واحدة، وكذلك وجدت كتاب أبي حنيفة، إنّما يقولون كتاب الله وسنّة نبيّه عليه السلام، وإنّما هم مخالفون له»(1).
قال السبكي:
«قال ـ أي الشافعي ـ : فسمعت ما لا اُحصيه محمّد بن الحسن يقول: إن بايعكم الشافعي، فما عليكم من حجازي كلفة بعده، فجئت يوماً فجلست إليه وأنا من أشدّ النّاس همّاً وغمّاً من سخط أميرالمؤمنين، وزادي قد نفد.
قال: فلمّا أن جلست إليه، أقبل محمّد بن الحسن يطعن على أهل دار الهجرة.
فقلت: على من تطعن، على البلد أم على أهله؟ والله لئن طعنت على أهله، إنّما تطعن على أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وإن طعنت على البلدة، فإنّها بلدتهم التي دعا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبارك لهم في صاعهم ومدّهم، وحرّمها كما حرّم إبراهيم مكّة لا يقصد صيدها، فعلى أيّهم تطعن؟
فقال: معاذ الله أن أطعن على أحد منهم أو على بلدته، وإنّما أطعن على حكم من أحكامه.
فقلت له: وما هو؟
قال: اليمين مع الشاهد.
فقلت له: ولم طعنت؟
قال: فإنّه مخالف لكتاب الله.
فقلت له: فكلّ خبر يأتيك مخالفاً لكتاب الله أيسقط؟
قال: فقال لي: كذا يجب.
فقلت له: ما تقول في الوصيّة للوالدين؟ فتفكّر ساعة.
فقلت له: أجب.
فقال: لا يجوز.
قال: فقلت له: فهذا مخالف لكتاب الله؟ لم قلت إنّه لا يجوز؟
قال: فقال: لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا وصيّة للوالدين.
قال: فقلت له: أخبرني عن شاهدين حتم من الله لا غيره؟
قال: فماذا تريد من ذا؟
قال: فقلت له: لئن زعمت أنّ الشاهدين حتم من الله لا غيره، كان ينبغي لك أن تقول إذا زنا زان فشهد عليه شاهدان إن كان محصناً رجمته وإن كان غير محصن جلدته.
قال: فإن قلت لك ليس هو حتم من الله؟
قال: قلت له إذا لم يكن حتماً من الله فتنزل كلّ الأحكام منازله، في الزنا أربعاً وفي غيره شاهدين، وفي غيره رجلاً وامرأتين، وإنّما أعني في القتل لا يجوز إلاّ شاهدين، فلما رأيت قتلاً وقتلاً أعني بشهادة الزنا وأعني بشهادة القتل، فكان هذا قتلاً وهذا قتلاً، غير أنّ أحكامهما مختلفة، فكذلك كلّ حكم تنزله حيث أنزله الله منها بأربع، ومنها بشاهدين، ومنها برجل وامرأتين، ومنها بشاهد واليمين، فرأيتك تحكم بدون هذا.
قال: وما أحكم بدون هذا؟
قال: فقلت له: ما تقول في الرجل والمرأة إذا اختلفا في متاع البيت؟
فقال: أصحابي يقولون فيه ما كان للرجال فهو للرجال، وما كان للنساء فهو للنساء.
قال: فقلت: أبكتاب الله هذا أم بسنّة رسول الله؟
قال: فقلت له: فما تقول في الرجلين إذا اختلفا في الحائط؟
فقال: في قول أصحابنا إذا لم يكن لهم بيّنة ينظر إلى العقد من أين هو فأحكم لصاحبه.
قال: فقلت له: أبكتاب الله هذا أم بسنّة رسول الله؟
فقلت: ما تقول في رجلين بينهما خصومة فيختلفان، لمن تحكم إذا لم يكن لهم بيّنة؟
قال: أنظر إلى معاقده من أيّ وجه هو فأحكم له.
قلت له: بكتاب الله تعالى قلت هذا أم بسنّة رسول الله؟
قال: فقلت له: فما تقول في ولادة المرأة إذا لم يكن يحضرها إلاّ امرأة واحدة وهي القابلة ولم يكن غيرها؟
قال: فقال: الشهادة جائزة بشهادة القابلة وحدها نقبلها.
قال: فقلت له: قلت هذا بكتاب الله أم بسنّة رسول الله؟
قال: ثمّ قلت له: من كانت هذه أحكامه فلا يطعن على غيره.
قال: ثمّ قلت له: أتعجب من حكم حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحكم به أبوبكر وعمر، وحكم به عليّ بن أبي طالب بالعراق، وقضى به شريح؟
ورجل من ورائي يكتب ألفاظي وأنا لا أعلم.
قال: فأدخل على هارون وقرأه عليه.
قال فقال لي هرثمة بن أعين: كان متّكياً فاستوى جالساً وقال: اقرءه علَيّ ثانياً.
قال: فأنشأ هارون يقول: صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تعلّموا من قريش ولا تعلّموها، قدّموا قريشاً ولا تؤخّروها، ما أنكر أن يكون محمّد بن إدريس أعلم من محمّد بن الحسن»(2).
وقد روى ياقوت الحموي هذه المناظرة في (معجم الادباء) وجاء في نقله أنْ قال الشافعي لمحمد:
«وأمّا كتابك الذي ذكرت أنّك وضعته على أهل المدينة، فكتابك من بعد بسم الله الرحمن الرحيم خطأ إلى آخره، قلت في شهادة القابلة كذا وكذا وهو خطأ، وقلت في مسألة الحامل كذا وكذا وهو خطأ، وقلت في مسألة كذا كذا وكذا وهو خطأ، فاصفرّ محمّد بن الحسن ولم يُحرِ جواباً»(3).
وأورد الفخر الرازي هذه المناظرة في (رسالته) في ترجيح مذهب الشافعي(4).
وحكى شاه ولي الله طرفاً منها في رسالته (الإنصاف) قال:
«مثاله ما بلغنا أنّه دخل ـ أي الشافعي ـ على محمّد بن الحسن وهو يطعن على أهل المدينة في قضائهم بالشاهد الواحد مع اليمين ويقول: هذا زيادة على كتاب الله.
فقال الشافعي: أثبت عندك إنّه لا تجوز الزيادة على كتاب الله بخبر الواحد؟
قال: نعم.
قال: فلم قلت إنّ الوصيّة للوارث لا تجوز لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ألا لا وصيّة لوارث وقد قال الله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت)الآية.
وأورد عليه أشياء من هذا القبيل فانقطع كلام محمّد بن الحسن»(5).
وفي كتاب (معدن اليواقيت الملتمعة في مناقب الأئمة الأربعة):
«قال الشافعي: لمّا حبست في دار العامة، ضاق قلبي في الحبس، وكنت لا أرى أحداً أستأنس به إلاّ محمّد بن الحسن، وكنت أميل إليه لفقهه، وآمل أن يشفع لي عند السلطان، فحضر يوماً وأقبل يذمّ المدينة ويضع من أهلها ويعظّم أصحابه ويرفع من أقدارهم، وذكر أنّه وضع على أهل المدينة كتاباً، وزعم أنّه لو وجد أحداً في الدنيا ينقض منه حرفاً أو يردّ عليه منه شيئاً ـ تبلّغني إليه الإبل ـ لسرت إليه وناظرته.
قال الشافعي: فرأيت وجوه أولاد المهاجرين والأنصار إنّها تسوّد لما سمعوا من ذمّ المدينة وأهلها، ورأيت أصحاب محمّد بن الحسن وإنّ وجوههم لتشرق ببياض ممّا سمعوا من مدح أصحابهم. قال: فبقيت بين أمرين: بين أن اُجيب عن كلامه واُبيّض وجوه أولاد المهاجرين والأنصار ويزداد به علَيّ غضب السلطان، وبين أن أسكت عن ذلك رجاء أن يكون محمّد بن الحسن شفيعاً لي عند السلطان، فاخترت رضا الله عزّ وجلّ في ذلك الموضع، فجثوت بين يديه ثمّ قلت:
يا أباعبدالله! أراك أصبحت تهجو المدينة وتذمّ أهلها، فإن كنت أردتها، فإنّها حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودار هجرته، وبها نزل الوحي، ومنها خلق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبه طابت، وبها روضة من رياض الجنّة، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: المدينة لا يدخلها الدجّال والطاعون، والمدينة على كلّ ثقب من أثقابها ملك شاهر سيفه. ولئن كنت أردت أهلها، فهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصهاره وأنصاره الذين مَهَّدوا الإيمان وحفظوا الوحي وجمعوا السنن. وإن كنت أردت من بعدهم فهم أبناؤهم والتابعون بعدهم، وهم الأخيار من هذه الاُمّة. ولئن كنت أردت من القوم رجلاً واحداً وهو مالك بن أنس فما عليك لو سمّيت من أردت، ولم تذكر المدينة كما ذكرت.
فقال: ما أردت إلاّ مالك بن أنس.
قال: فقلت: قد نظرت في كتابك هذا، فإذا ـ بعد بسم الله الرحمن الرحيم ـ خطأ كلّه.
قال: فما ذاك؟
قلت له: قلتَ فيه: قال أهل المدينة. ولست تخلو في قولك قال أهل المدينة: من أن يكون أردت جميع علماء أهل المدينة، أو تكون أردت بقولك قال أهل المدينة مالك بن أنس وأردت انفراده; فإن كنت أردت بقولك قال أهل المدينة جميع أهل المدينة فقد أخطأت، لأنّ علماء أهل المدينة لم يقفوا على ما حكيت عنهم، وإن كنت أردت به مالك بن أنس على انفراده وجعلته أهل المدينة، فقد أخطأت، لأنّ بالمدينة من علمائها من يرى استتابة مالك فيما خالفه فيه، فأيّ الأمرين قصدت له فقد أخطأت.
قال: قصدت ذمّ القائلين بالشاهد مع اليمين، لأنّهم قالوا بخلاف كتاب الله عزّ وجلّ.
قال: فقلت له: وأين خالف الكتاب؟
فقال: قال الله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) وقال سبحانه: (ذوي عدل منكم) فقالوا: شاهداً واحداً.
فقال: فقلت له: أخبرني عن قوله عزّ وجلّ: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) أحتم، ولا يجوز أقلّ من شاهدين أم ذلك ليس بحَتْم؟
قال: بل هو حتم، ولا يجوز أقلّ من شاهدين.
فقلت: إن كان ما قلت كما قلت، فقد خالفت أنت وصاحبك الكتاب.
قال: وأين خالفنا الكتاب؟
فقلت له: ما تقول في شهادة القابلة وحدها على انفرادها على الولادة؟
فقال: شهادتها وحدها جائزة.
فقلت له: قد أجزت شهادة امرأة واحدة لا شاهد معها، قد خالفت الكتاب.
وقلت في رجلين تداعيا جداراً ولا بيّنة لهما: إنّ الجدار من يليه أنصاف اللبن ومعاقد القمط.
وقلت في متاع البيت يدّعيه الزوجان: ما كان يصلح للرجال فهو للرجل، وما كان يصلح للنساء فهو للمرأة.
وقلت في الزقوق إذا ادّعاها صاحب الحانوت وساكنه: إن كانت منفصلة غير مستمرّة فهي للساكن، وإن كانت متّصلة مستمرّة فهي لربّ الحانوت.
فقضيت للمدّعي في هذه الصور بغير بيّنة ولا يمين، ثمّ أنكرت علينا الشاهد واليمين وهو سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقول عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وقول الحكّام عندنا بالحجاز، وأنت تقول هذا برأيك وتردّ علينا السنّة.
قال: وذكرت أشياء ممّا خالفنا وترك السنن وقلت له: خالفت أنت في كتابك هذا في سبعين موضعاً كتاب الله تعالى على قولك، ثمّ حكيتها له قولاً قولاً، منها كذا ومنها كذا.
قال: فتغيّر وجه محمّد بن الحسن وانقطع، فتبيّن لأهل المجلس ذلك وأسرّ به أكثر من حضرنا من أهل الحجاز، وابيضّت وجوه أولاد المهاجرين والأنصار بما سمعوا في دار الهجرة من نصرة الحقّ، وكان على الدار يومئذ هرثمة، فكتب الخبر وبعث به إلى هارون.
قال الشافعي: وتوقّعت البلاء، فلمّا قرىء الخبر على هارون الرشيد قال: وما ينكر لرجل من بني عبد مناف أن يقطع محمّد بن الحسن.
قال: فبعث إليّ هارون الرشيد بألف دينار، وبعث إليّ المأمون بخمسمائة دينار وقال: أحبّ أن تجعل انقطاعك إليّ.
قال: فجاءني هرثمة وأخبرني برضا أميرالمؤمنين، وأقرأ علَيّ منه السلام ووضع المال الذي أمر به هارون بين يديّ ثمّ قال: لولا أنّ الخليفة لا يساوى لأمرت لك بمثلها وقد أمرت لك بأربعمائة دينار.
قال الشافعي: جزاك الله عنّا خيراً، لولا أنّي لا أقبل جائزة إلاّ لمن هو فوقي لقبلت جائزتك.
فردّ الشافعي جائزة هرثمة وقبل جائزة هارون الرشيد، ثمّ جعل يصرّه صرّة فيقسمه في أهل مكّة والقرشيّين الذين بالحضرة، فما انصرف إلى منزله إلاّ بأقلّ من مائة».
وقال الرازي في تلك الرسالة:
«المسألة السادسة: قال الشافعي: قلت لمحمّد بن الحسن: زعمتم أنّه لا يجوز أن يدعو الرجل في صلاته إلاّ بما في القرآن إمّا مجملاً وإما مفصّلاً، ثمّ رأينا أنّ طلب جميع الخيرات في الدنيا والآخرة والإستعاذة من جميع شرور الدنيا والآخرة مذكورة في القرآن، فما معنى قولكم لا يدعو الرجل إلاّ بما في القرآن؟ ألا ترى إنّ إبراهيم عليه السلام قال: (واجنبني وبَنيّ أن نعبد الأصنام)وقال: (وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر)فطلب خيرات الدنيا والآخرة، وقال موسى عليه السلام: (ربّنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على اموالهم واشدد على قلوبهم) وقال زكريّا عليه السّلام: (فهب لي من لدنك وليّاً) وقال سليمان عليه السّلام: (هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي)وقال نوح عليه السّلام لقومه: (استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)وقال تعالى: (زيّن للنّاس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث) وقال تعالى: (وهو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع) الآية.
فقال الشافعي: لو أنّ الرجل قال: اللهمّ هب لي خيلاً أركبها وفاكهة آكلها وامرأة أتزوّج بها، فكلّ ذلك مذكور في القرآن، فما معنى قولكم لا يجوز أن يدعو إلاّ بما في القرآن؟
قال: فسكت محمّد ولم يذكر جواباً.
قلت: والذي يؤكّد هذا الكلام، أنّهم جوّزوا قراءة الفاتحة بالفارسيّة وقالوا: المقصود هو المعنى وذلك لا يختلف فكذا ههناك، المقصود من الدعاء طلب هذه الأشياء ولا يتفاوت ذلك بأن يذكر بالعربية أو بالفارسية وكذا ههنا المقصود من ههنا طلب هذه الأشياء، طلب أعيانها ومنافعها، وإذا كانت بأسرها مذكورة في قوله تعالى: (ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)فالقول بأنّ طلب هذه الأشياء لا يجوز مع القول بجواز قراءة الفاتحة بالمعنى كالمتناقض.
ثمّ قال الشافعي: وقد دعا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لقوم وسمّاهم بأسمائهم ونسبهم إلى قبائلهم، وهذا كله يدلّ على أنّ المحرّم من الكلام إنّما هو كلام الناس بعضهم بعضاً في حوائجهم، فأمّا إذا دعا ربّه وسأله حاجته فهذا لا أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختلف فيه، وقد صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: وأمّا السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فإنّه قمن أن يستجاب لكم. ولم يخصّ رسول الله دعاءً دون دعاء»(6).
وفيها أيضاً:
«المسألة الخامسة: روى الربيع أنّه جرت مناظرة بين الشافعي وبين محمّد بن الحسن في باب الماء، فقال: زعمت أنّ فارةً إن وقعت في بئر فماتت، نزح منها عشرون دلواً ويطهر البئر، أرأيت شيئاً قط ينجس كلّه فيخرج بعضه فتذهب النجاسة عن الباقي؟
فقال: إنّما أخذنا بهذا المذهب لورود الأثر فيه. قلنا: ههنا تركتم هذا القياس اليقيني بسبب هذا الأثر، ثم تركتم النصّ الصريح في مسألة المصراة بسبب قياس ضعيف! وذلك عجيبٌ جدّاً حيث يترك القياس اليقيني بسبب أثر ضعيف اتفق المحدّثون على ضعفه، ويترك النص الصريح الذي أجمع المحدثون على صحّته بسبب قياس ضعيف.
ثمّ قال الشافعي لمحمّد بن الحسن: وزعمت أنّك إذا أدخلت يدك في بئر لتتوضّأ بها إنّ ماء البئر ينجس كلّه ولا يطهر البئر حتّى ينزح الماء بالكليّة، وإنْ سقطت فيه نجاسة ميتة، طهر بعشرين دلواً أو ثلاثين دلواً، فهل يعقل أنْ يقال إنّ البئر ينجس بدخول اليد التي لا نجاسة عليها أكثر ممّا ينجس بسبب وقوع النجاسة فيه؟
قلت: والإلزام أظهر فيما إذا فرضنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان محدثاً، فأدخل يده المباركة في البئر أنه ينجس ماء البئر عندهم بالكليّة، ولا يطهر إلاّ بأن ينزح الماء بالكليّة، وتمام التقرير معلوم»(7).
وفيها أيضاً:
«المسألة الثانيه عشرة: روي أنّ محمّد بن الحسن قال للشافعي يوماً: بلغني أنّك تخالفنا في مسائل الغصب.
قال الشافعي: فقلت له: أصلحك الله، إنّما هو شيء أتكلّم به في المناظرة.
قال: فناظرني.
قلت: إنّي اُجلّك عن المناظرة.
فقال: لابدّ منه.
ثمّ قال: ما تقول في رجل غصب ساجةً، وبنى عليها جداراً وأنفق عليه ألف دينار، فجاء صاحب الساجة وأقام شاهدين على أنّها ملكه؟
فقال الشافعي: قلت: أقول لصاحب الساجة ترضى أن نأخذ قيمتها؟ فإن رضي وإلاّ قلعت البناء ودفعت ساجته إليه.
قال محمّد بن الحسن: فما تقول في رجل غصب لوحاً من خشب فأدخله في سفينة، ووصلت السفينة إلى لجّة البحر، فأتى صاحب اللّوح بشاهدين عدلين أنها ملكه، أكنت تنزع اللّوح من السفينة؟
قلت: لا.
قال: الله أكبر، تركت قولك.
ثمّ قال: ما تقول في رجل غصب خيطاً من إبريسم، فمُزّق بطنه وخاط بذلك الأبريسم تلك الجراحة، فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أنّ هذا الخيط مغصوب منه، أكنت تنزع الخيط من بطنه؟
قلت: لا.
قال: الله أكبر تركت قولك. وقال أصحابه: تركت قولك.
قال الشافعي: فقلت: لا تعجلوا، أرأيت لو كان اللّوح لوح نفسه، ثمّ أراد أن ينزع ذلك اللّوح من السفينة حال كونها في لجّة البحر، أيباح له ذلك أم محرم؟
قال: بل يحرم.
قلت: أفرأيت لو كان الخيط خيط نفسه، وأراد أن ينزعه من بطنه ويقتل نفسه، أمباح له ذلك أم محرّم؟
قال: بل محرّم.
قلت: أرأيت لو جاء مالك الساجة وأراد أن يهدم البناء وينزعها، أمحرّم له ذلك أم مباح؟
قال: بل مباح.
قال الشافعي: يرحمك الله، فكيف تقيس مباحاً على محرّم؟!
فقال محمّد: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟
فقلت له: آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل، ثمّ أقول له: إنزع اللّوح وادفعه إليه.
فقال محمّد بن الحسن: قد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
قال الشافعي: ومن ضرّه؟ هو الذي ضرّ نفسه.
ثمّ قال الشافعي: ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة، ثمّ أولدها عشرة كلّهم قضاة سادات أشراف خطباء، فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين على أنّ هذه الجارية التي هي اُمّ هؤلاء الأولاد كانت مملوكة له، ماذا تعمل؟
فقال محمّد بن الحسن: أحكم بأنّ أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل.
فقال الشافعي: فقلت: أنشدك الله، أيّ هذين أعظم ضرراً، أن تقلع الساجة وتردّها إلى مالكها، أو تحكم بردّ الجارية إلى مولاها وتحكم برقّ هؤلاء الأولاد؟
فانقطع محمّد بن الحسن»(8).
وفيها أيضاً:
«المسألة الثالثه عشرة: قال محمّد بن الحسن للشافعي في مسألة العارية: أنتم لا تعرفون معنى حديث صفوان، وذلك، لأنّ العارية هناك إنّما صارت مضمونة، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: عارية مضمونة.
قال الشافعي: فقلت: من استعار الساعة عارية وبشرط أن يضمنها، هل يضمن؟
قال محمّد: لا.
قال الشافعي: فقلت: إنّما أنت تسخر من هؤلاء الذين عندك. وفي رواية أخرى: ما تقول في الشيء الذي لا يكون مضموناً لو ضمنه هل يصير مضموناً عليه. قال محمد: لا. قال الشافعي: فقلت له: إنما تخدع هؤلاء!. والحاصل أنّ ما لا يكون مضموناً في الأصل لا يصير مضموناً بشرط الضمان، كالوديعة وغيرها من الأمانات»(9).
وفيها أيضاً:
«وحكى الشافعي عن أبي يوسف أنّه قال لأرمينّ الليلة أهل المدينة بقاصمة الظهر في اليمين والشاهد، فقال رجل: وماذا تقول؟
قال أبويوسف: أتمسّك بقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم).
فقال الرجل: لو سألوك عن الشاهدين اللذين أمر الله تعالى بقبول شهادتهما؟
فقال أبو يوسف: هما عدلان مسلمان.
قال الشافعي: فقلت: لو قالوا لكم فأجزت شهادة أهل الذمّة في الحقوق وقد قال الله تعالى: (من رجالكم) وقال: (ممّن ترضون من الشهداء)؟
قال: فتفكّر ساعة ثمّ قال: هم في الحماقة أشدّ من أن يهتدوا إلى ذلك.
فقلت: أنت إنّما تحتجّ على ضعفاء الناس»(10).

أقول:
فهذه موارد من ردود الشافعي على فتاوى أبي حنيفة، ونماذج من مناظراته مع تلامذته… ومن أراد التوسّع في هذا الباب فليرجع إلى (كتاب الردّ على محمّد بن الحسن) من مصنفات الشافعي، كما ذكروه له بتراجمه كما في (معجم الادباء) وغيره.

(1) طبقات الشافعية 2: 121 ـ 122 مع اختلاف يسير.
(2) طبقات الشافعية 2: 122 ـ 124.
(3) معجم الادباء 5: 195.
(4) مناقب الإمام الشافعي: 88 ـ 91.
(5) الانصاف في بيان اسباب الاختلاف: 41 ـ 42.
(6) مناقب الإمام الشافعي: 276 ـ 278.
(7) مناقب الإمام الشافعي: 275 ـ 276.
(8) مناقب الإمام الشافعي: 284 ـ 286.
(9) مناقب الإمام الشافعي: 286 ـ 287.
(10) مناقب الإمام الشافعي: 293.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *