3 ـ التأويل والحمل

3 ـ التأويل والحمل
ومنهم من سلك طريق التأويل للأخبار المنقولة عن ابن مسعود:
قال ابن حجر في (فتح الباري):
«وقد تأوّل القاضي أبوبكر الباقلاني في كتاب الإنتصار، وتبعه عياض وغيره ما حكي عن ابن مسعود فقال: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن، وإنّما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنّه كان يرى أنْ لا يكتب في المصحف شيئاً، إلاّ إنْ كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أذن في كتابته فيه، وكأنّه لم يبلغه الإذن في ذلك. قال: فهذا تأويل منه وليس جحداً لكونهما قرآناً. وهو تأويل حسن».
لكنّه تأويل عجيب وتوجيه غريب، فأيّ مانع من درج ما هو قرآن في القرآن حتّى لا يجوّز ابن مسعود ذلك، ويهتمّ بمحوه من المصحف؟ إنّ مثل هذا التأويل غير مجد للدفاع عن حرمة ابن مسعود والمحافظة على مقامه…
إنّ هذا التأويل لا يمكن قبوله أصلاً، ولذا قال ابن حجر بعد العبارة المتقدّمة:
«إلاّ أنّ الرواية الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها: ويقول: إنّهما ليستا من كتاب الله» إلاّ أنّه حاول التأويل لهذه الرواية فقال: «نعم، يمكن حمل لفظ «كتاب الله» على «المصحف» فيتمّ التأويل المذكور.
وقال غير القاضي: لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيّتهما، وإنّما كان في صفة من صفاتهما، إنتهى.
وغاية ما في هذا أنّه أبهم ما بيّنه القاضي»(1).
لكنّ هذا التأويل باطل أيضاً، إذ لا يساعده لفظ الرواية عند البزّار والطبراني التي أوردها ابن حجر أيضاً، فإنّها صريحة في أنّ ابن مسعود كان يقول بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّما عوّذ بالمعوّذتين، ولم يكن يقرأ بهما، وهذا يدلّ بكلّ وضوح على أنّ ابن مسعود ما كان يرى المعوّذتين قرآناً، اللّهمّ إلاّ أن يزعموا أنّ عدم القراءة بالمعوّذتين لا يثبت عدم كونهما قرآناً، وحينئذ، فما هو الكلام المعبّر عن ذلك؟!
ومن هنا نرى أنّ بعض المتكلّمين منهم لمّا لم يتمكّنوا من توجيه رأي ابن مسعود، ولا من إنكار ما لاقاه من عثمان، اضطرّ إلى هتك حرمة ابن مسعود وتوهينه… ولم يتعرّض لشيء من هذه التأويلات…
وكيف يمكن تأويل ما اُخرج في (المسند) من أنّه «لقد كان ابن مسعود يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعوّذ بهما الحسن والحسين، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلواته، فظنّ أنّهما معوّذتان، وأصرَّ على ظنّه، وبالغ في إنكار كونهما من القرآن»(2)؟
ولذا نرى الحافظ ابن حجر يتراجع عن كلّ التأويلات، وقد قال في آخر كلامه السّابق:
«ومن تأمّل سياق الطرق التي أوردتها للحديث استبعد هذا الجمع».
واختار بالأخرة الحمل على عدم تواتر المعوّذتين عند ابن مسعود، قال:
«قد قال ابن الصبّاغ في الكلام على مانعي الزكاة: وإنّما قاتلهم أبوبكر على منع الزكاة، ولم يقل إنّهم كفروا بذلك، وإنّما لم يكفروا، لأنّ الإجماع لم يكن استقر، قال: ونحن الآن نكفّر من جحدها، وكذلك ما نقل عن ابن مسعود في المعوّذتين، يعني: إنّه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثمّ حصل الإتفاق بعد ذلك.
وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي فقال: إنْ قلنا: إنّ كونهما من القرآن كان متواتراً في عصر ابن مسعود، لزم تكفير من أنكرهما. وإنْ قلنا: إنّه لم يكن متواتراً، لزم أنّ بعض القرآن لم يتواتر. قال: وهذه عقدة صعبة.
واُجيب: باحتمال أنّه كان متواتراً في عصر ابن مسعود، ولكنْ لم يتواتر عند ابن مسعود، فانحلّت العقدة بعون الله تعالى»(3).
إلاّ أنّ هذا الحمل أضعف وأفسد من الكلّ، وذلك:
أوّلاً: إنّه ينافي ما رواه القوم ـ كما في (الإستيعاب) وغيره ـ من أنّ ابن مسعود حضر العرض الأخير للقرآن الكريم، وعلم ما نسخ منه وما بدّل، وهذا نصّ ما رواه ابن عبدالبر حيث قال:
«روى وكيع وجماعة معه، عن الأعمش، عن أبي ظبيان قال: قال لي عبدالله بن عبّاس: أيّ القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الاُولى قراءة ابن اُم عبد. فقال لي: بل هي الآخرة، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض القرآن على جبرئيل في كلّ عام مرّةً، فلمّا كان العام الذي قبض فيه، عرضه عليه مرّتين، فحضر ذلك عبدالله، فعلم ما نسخ من ذلك وما بدّل»(4).
وهل من الجائز أن يقال بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يعرض المعوّذتين، وجبريل أيضاً لم ينبّهه على ذلك؟!
وثانياً: إذا كان تواتر المعوّذتين ثابتاً عند الصّحابة وغير ثابت عند ابن مسعود فقط، نقول: إنْ كان سائر الصحابة قد أخبروه بكون المعوّذتين من القرآن فلم يقبل منهم ولم يصدّقهم، أو لم يثبت بخبرهم تواترهما عنده، لزم فسق الصّحابة، بل دلّ ذلك على كونهم أسوء حالاً من الكفّار والفسّاق، لأنّ التواتر يحصل بإخبار الكفّار أيضاً كما بُيّن في محلّه. وإنْ كان سائر الصّحابة لم يخبروه بكون المعوّذتين قرآناً، مع علمهم بأنّه كان يحكّهما من المصاحف ـ كما في (المسند): «عن زر قال: قلت لأبي: إنّ أخاك يحكّهما من المصحف»، وكما في (الرياض النضرة) في مطاعن عثمان: «وأمّا الخامسة عشر، وهي إحراق مصحف ابن مسعود، فليس ذلك ممّا يعتذر عنه، بل هو من أكبر المصالح، فإنّه لو بقي في أيدي الناس أدّى ذلك إلى فتنة كبيرة في الدين، لكثرة ما فيه من الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن، ولحذفه المعوّذتين من مصحفه مع الشهرة عند الصحابة أنّهما من القرآن. وقال عثمان لمّا عوتب في ذلك: خشيت الفتنة في القرآن»(5) ـ فالصّحابة ـ وعلى رأسهم عثمان ـ كلّهم فسّاق!!
وبعد، فإذا كان ابن مسعود منكراً للمعوّذتين، فإنّ جميع ما يشنّع به المخالفون على أهل الحق ـ لوجود بعض الأخبار الظاهرة في تحريف القرآن ـ القابلة للحمل على المحامل الصحيحة في كتبنا ـ يتوجّه على ابن مسعود بالأولويّة القطعيّة، فإنّه ينكر بصراحة سورتين كاملتين، بل ثلاث سور، هي المعوّذتان واُم الكتاب، وهو في نفس الوقت من أعلام الصحابة وأجلاّئهم، ومن أئمّة القرآن والتفسير وأكابرهم!! بل هو محكوم عليه بالكفر والخروج عن زمرة المسلمين، وقد جاء في كتاب (فصول الأحكام) لعماد الدين حفيد برهان الدين صاحب الهداية(6):
«وبعض المشايخ على أنّه ـ أي من زعم أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن ـ يكفر. وحكى عن خاله الإمام جلال الدين أنّه قد ذكر في آخر تفسير أبي اللّيث حديثاً: من زعم أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن فأولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ومثل هذا الوعيد إنّما ورد في حقّ الكفّار دون المؤمنين».
وتلخّص:
سقوط جميع التأويلات، وبقاء العقدة العويصة على حالها.
فهذا حال ابن مسعود عند القوم على اُصولهم.
ولعلَّ هذا هو السبب في توقّف عبدالله بن عمر عن قبول خبر ابن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما في (صحيح مسلم):
«عن أبي رافع عن عبدالله بن مسعود: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من نبيّ بعثه الله في اُمّة قبلي، إلاّ كان له من اُمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثمّ إنّها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن… وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل.
قال أبو رافع: فحدّثت عبدالله بن عمر، فأنكره عليَّ، فقدم ابن مسعود فنزل بقناة، فاستتبعني إليه عبدالله بن عمر يعوده، فانطلقت معه، فلمّا جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث، فحدّثنيه كما حدّثت ابن عمر»(7).

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 604.
(2) مسند أحمد بن حنبل 6: 154/20684.
(3) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 604.
(4) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 992/1659.
(5) الرياض النضرة في مناقب العشرة 3: 99.
(6) المعروف بكتاب (فصول العمادي) كما في (كشف الظنون 2: 1270) وهو في فروع الحنفيّة. وصاحب الهداية هو: برهان الدين المرغيناني المتوفّى سنة 593.
(7) صحيح مسلم 1: 70/80 كتاب الإيمان الباب 20.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *