مقدّمة – كلمات في ذمّ كتبهم التفسيريّة

مقدّمة

كلمات في ذمّ كتبهم التفسيريّة
روي عن أحمد بن حنبل كلمة موجزة في التفسير والمفسّرين عند القوم تدلّ على معنىً عظيم، فقد جاء في (تذكرة الموضوعات):
«قال أحمد بن حنبل: ثلاث كتب ليس لها اُصول: المغازي والملاحم والتفسير»(1).
وقد ثقل هذا الكلام على القوم، وجعلوا يذكرون له المحامل والتأويلات…
«قال الخطيب: هذا محمول على كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، لعدم عدالة ناقليها وزيادة القصّاص فيها»(2).
لكنْ لا يخفى عدم صحّة هذا الحمل… على أنّ في كتب الحديث أيضاً كتباً غير معتمد عليها لعدم عدالة ناقليها، فكان عليه أن يذكر كتب الحديث كذلك…
وقال السيوطي في (الإتقان) ناقلاً عن ابن تيميّة في أقسام التفسير:
«وأمّا القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود كثيراً ولله الحمد، وإنْ قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي، وذلك لأنّ الغالب عليها المراسيل»(3).
لكنْ إذا كان الغالب عليها المراسيل، فما معنى حمد الله على وجودها؟!
وكون الغالب عليها المراسيل وجهٌ آخر من وجوه الطعن في تفاسيرهم…
لكنّ بعض الأئمّة يصرّحون بأنّ كتب التفسير عندهم مشحونة بالموضوعات، فقد قال المناوي في (فيض القدير):
«اجتهدت في تهذيب عزو الأحاديث إلى مخرجيها من أئمّة الحديث من الجوامع والسنن والمسانيد، فلا أعزو إلى شيء منها إلاّ بعد التفتيش عن حاله وحال مخرجه، ولا أكتفي بعزوه إلى من ليس من أهله وإنْ جلّ، كعظماء المفسّرين، قال ابن الكمال: كتب التفسير مشحونة بالأحاديث الموضوعة»(4).
بل لقد نصَّ المحدّث شاه ولي الله الدهلوي، في تفسيره (الفوز الكبير)، بأنّ الأخبار المطوَّلة المروية في كتب التفسير في قصص الأنبياء السابقين، كلّها منقولة عن علماء أهل الكتاب، وفي البخاري مرفوعاً: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم».
وقال شيخهم الأعظم ابن عربي، في الباب الثاني والسبعين بعد الثلاثمائة، من (الفتوحات المكيّة):
«وفيه علم تنزيه الأنبياء عمّا نسب إليهم المفسّرون من الطامّات ممّا لم يجيء في كتاب الله، وهم يزعمون أنّهم قد فسّروا كلام الله فيما أخبر به عنهم، نسأل الله العصمة في القول والعمل، فلقد جاؤوا في ذلك بأكبر الكبائر، كمسألة إبراهيم الخليل عليه السلام وما نسبوا إليه من الشكّ، وما نظروا في قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نحن أولى بالشكّ من إبراهيم، فإنّ إبراهيم ما شكّ في إحياء الموتى، ولكن لمّا علم أنّ لإحياء الموتى وجوهاً مختلفة، لم يدر بأيّ وجه منها يكون إحياء الموتى، وهو مجبول على طلب العلم، فعيّن الله له وجهاً من تلك الوجوه حتّى سكّن الله قلبه فعلم كيف يحيي الله الموتى.
وكذلك قصّة يوسف ولوط وموسى وداود ومحمّد، على جميعهم أفضل الصّلاة والسّلام.
وكذلك ما نسبوه في قصّة سليمان عليه السلام إلى الملكين.
وكلّ ذلك نقلوه عن اليهود، واستحلّوا عرض الأنبياء والملائكة بما ذكرته اليهود الذين جرحهم الله تعالى، وملأوا كتبهم في تفسير القرآن العزيز بذلك، وما في ذلك نصٌّ في كتاب الله ولا في سنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والله يعصمنا من غلطات الأفكار والأقوال والأفعال».
وأورد الشيخ عبدالوهّاب الشعراني كلام الشيخ ابن عربي المتقدّم، حيث قال ما نصّه:
«قال الشيخ في الباب الثاني والسبعين وثلاثمائة من الفتوحات المكّيّة: يجب قطعاً تنزيه الأنبياء ممّا نسبه إليهم بعض المفسّرين من الطامّات، ممّا لم يجيء في كتاب الله ولا سنّة صحيحة، وهم يزعمون أنّهم قد فسّروا قصصهم الّتي قصّها الله تعالى علينا.
وكذبوا والله في ذلك، وجاؤوا فيه بأكبر الكبائر.
وذلك كمسألة إبراهيم الخليل على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام، وما نسبوه إليه من وقوع الشكّ بحسب ما يتبادر إلى الأذهان، وما نظروا في قوله صلّى الله عليه وسلّم: نحن أولى بالشكّ من إبراهيم، وذلك أنّ إبراهيم عليه السلام لم يشكّ في إحياء الله تعالى الموتى، معاذ الله أن يشكّ نبيّ في مثل ذلك، وإنّما كان يعلم أنّ لإحياء الموتى طرقاً ووجوهاً متعدّدة، لم يدر بأيّ وجه منها يكون إحياء الله تعالى للموتى، وهو مجبول على طلب الزيادة من العلم، فعيّن الله تعالى وجهاً من تلك الوجوه فسكّن ما كان عنده، وعلم حينئذ كيف يحيي الموتى، فما كان السّؤال إلاّ عن معرفة الكيف لا غير.
وكذلك القول في قصّة سليمان وما نسبوه إلى الملكين هاروت وماروت.
كلّ ذلك لم يرد في كتاب ولا سنّة، وإنّما ذلك نقل عن اليهود، فاستحلّوا أعراض الأنبياء والملائكة بما ذكروه لهم من جرحهم أنبياء الله تعالى، وملأوا تفاسيرهم للقرآن من ذلك، فالله يحفظنا وإخواننا من غلطات الأفكار والأفعال والأقوال، آمين، إنتهى.
وأيضاً، قال في الباب الرابع والخمسين ومائة: ينبغي للواعظ أن يراقب الله تعالى، في أنبيائه وملائكته ويستحي من الله عزّ وجلّ، ويتجنّب الطامّات في وعظه، كالقول في ذات الله بالفكر، والكلام على مقامات الأنبياء عليهم الصّلاة والسلام، من غير أن يكون وارثاً لهم، فلا يتكلّم قطّ على زلاّتهم بحسب ما يتبادر إلى أذهان الناس بالقياس إلى غيرهم; فإنّ الله تعالى قد أثنى على الأنبياء حسن الثناء بعد أن اصطفاهم من جميع خلقه، فكيف يستحلّ أعراضهم بما ذكره المؤرّخون عن اليهود.
قال: ثمّ إنّ الداهية العظمى جعلهم ذلك تفسيراً لكلام الله تعالى.
وفي تفسيرهم: قال المفسّرون في قصّة داود أنّه نظر إلى امرأة اُوريا، فأعجبته فأرسله في غزاة ليموت فيأخذها.
وكقولهم في يوسف ـ على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام ـ أنّه همّ بالمعصية، وأنّ الأنبياء لم يُعصَموا عن مثل ذلك.
وكقولهم في قصّة لوط (لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد)العجز والبحر ونحو ذلك.
ويعتمدون على تأويلات فاسدة وأحاديث واهية نقلت عن قوم قالوا في الله ما قالوا من البهتان والزّور.
فمن أورد مثل ذلك في مجلسه من الوعّاظ، مقته الله والأنبياء والملائكة، لكونه جعل دهليزاً ومهاداً لمن في قلبه زيغ يدخل منه إلى ارتكاب المعاصي، ويحتجّ بما سمعه منه في حقّ الأنبياء ويقول: إذا كان الأنبياء وقعوا في مثل ذلك فمن أكون أنا، وحاشى الأنبياء كلّهم عن ذلك الذي فهمه هذا الواعظ، فوالله، لقد أفسد الواعظ الاُمّة، وعليه وزر كلّ من كان سبباً لاستهانته بما وقع فيه من المعاصي، ولكنّه قد ورد أنّه لا تقوم السّاعة حتّى يصعد الشيطان على كرسي الوعظ ويعظ النّاس وهؤلاء من جنوده الذين يتقدّمونه»(5).

(1) تذكرة الموضوعات: 82.
(2) تذكرة الموضوعات: 82.
(3) الإتقان في علوم القرآن 4: 205.
(4) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 20.
(5) اليواقيت والجواهر 2: 232 ـ 233.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *