وقال صاحب (فواتح الرحموت):

وقال صاحب (فواتح الرحموت):
«الشمعونيّة قالوا أوّلاً إن كان النسخ لحكمة ظهرت للنّاسخ الآن ولم تكن ظاهرة من قبل فبداء، أي فالنسخ بداء وجهل بعواقب الاُمور، وإلاّ يكن لحكمة ظهرت فعبث، أي فهو عبث من غير فائدة. قلنا: المصلحة قد تتجدّد بتجدّد الأحوال، والحاكم كان يعلم في الأزل أنّ المصلحة تتجدّد، فإنّ الكلام فيما ليس بحسن ولا قبيح لذاته، وأمّا ما هو حسن لذاته وقبيح كذلك، فلا يقبل النسخ عندنا أيضاً، فلا بداء، فإن اُريد بالظهور الظهور للحاكم بعد الجهل به، فنختار أنّه لم يظهر الآن بل كان ظاهراً له من الأزل، ولا يلزم العبث، فالملازمة الثانية ممنوعة، وإن اُريد به الوجود في الفعل واتصافه به فلزوم البداء ممنوع، كيف؟ وإنّه كان يعلم من الأزل أنّه تتجدّد مصلحة فيه، على أنّ الأشاعرة التابعين للشيخ أبي الحسن الأشعري يختارون الشق الثّاني ويلتزمون عبثاً، فإنّهم لا يرون اشتمال أحكامه على المصالح، لأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد»(1).
وقال أيضاً:
«مسألة: لا يجوز عند الحنفيّة والمعتزلة نسخ حكم فعل لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط، كوجوب الإيمان وحرمة الكفر وسائر العقائد الباطلة، وقد مرّ من قبل.
إنْ قلت: الكلّ عند المعتزلة غير الجبّائية كذلك، لأنّ حسن كلّ فعل وقبحه عندهم لذات الفعل، وما بالذّات لا يتخلّف.
قلت: ما لغيره قد يغلب على ما بذاته فيتخلّف عنه ما لذاته، كما في برودة الماء، وقد مرّ في المبادي الأحكاميّة.
ويجوز نسخ وجوب الإيمان وحرمة الكفر عند الأشاعرة التابعين للشيخ أبي الحسن الأشعري ومنهم الشافعيّة، إذ لا حسن ولا قبح عندهم إلاّ شرعاً، فالإيمان والكفر سيّان عندهم، وما أوجب الشرع فهو حسن، وما حرّم فهو حرام، ومن ثمّة جوّزوا نسخ جميع التكاليف عقلاً، إلاّ الإمام حجّة الإسلام الغزالي قدّس الله سرّه قال: يجب معرفة النسخ والناسخ وهو تكليف. قيل في جوابه: سلّمنا أنّه لابدّ من تلك المعرفة، ولا يجب على المكلّف تحصيل تلك المعرفة، بل يجب على الله تعالى ـ عقلاً على اُصول أهل الاعتزال، أو عادة على ما يقتضيه اُصول أهل السنّة القامعين للبدعة كثّرهم الله تعالى ـ تعريف الناسخ للعباد، تفضّلاً منه تعالى على عباده، وإذا لم يجب على المكلّف فلا تكليف به.
أقول: يجب على المكلّف اعتقاد أنّ الناسخ خطاب من الله تعالى، وإلاّ أي وإن لم يجب، فهو يعمل بالمنسوخ، ولو عمل به لأثم قطعاً، فإنّ العمل بالمنسوخ حرام، فهذا العقد مطلوب منه وهو تكليف، فتدبّر.
واعترض عليه مطلع الأسرار الإلهيّة والدي قدّس سرّه: أمّا أوّلاً: فلأنّه لمّا فرض وجوب إعلام الله تعالى انتساخ الحكم فلا يقرب إلى العمل به فلا يأثم، وإن عمل به مع هذا العلم فلا ينفع الوجوب عليه دفعاً لهذا الإثم، وأمّا ثانياً: فلأنّ الغرض انتفاء التكاليف رأساً، لا بالإيجاب ولا بالتحريم، فلو فرض انتفاء هذه المعرفة والعمل بالمنسوخ لا يلزم الإثم، كيف؟ وصار حال هذه الأحوال حال انتفاء البعثة، فالأفعال كلّها على الإباحة، فالعمل بالمنسوخ والناسخ سيّان فلا إثم. نعم، لو لم يكن هذه المعرفة وقع في تعب العمل بالأحكام المنسوخة من غير فائدة، فيلزم العبث، لكن لا يلزم منه وجوب هذه المعرفة، إذ لا استحالة عند الأشعريّة في إيقاع الله تعالى عبيده في العبث. فافهم»(2).

(1) فواتح الرحموت 2 : 56 .
(2) فواتح الرحموت 2 : 67 ـ 68 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *