الاستدلال بقضية عروة البارقي

الاستدلال بقضية عروة البارقي
قال الشيخ:
وقد اشتهر الاستدلال عليه بقصّة عروة البارقي… فإن بيعه وقع فضولاً وإنْ وجّهنا شراءه على وجه يخرج عن الفضولي. هذا، ولكن لا يخفى أن الاستدلال بها يتوقف…
أقول:
هذه القصّة غير واردة من طرقنا، لكنّ الاستدلال بها في كتبنا مشهور.
تقول الرواية: إنّ النبي صلّى الله عليه وآله دفع إلى عروة ديناراً وقال له: اشتر لنا به شاةً للاُضحيّة، فاشترى بالدينار شاتين، ثم باع أحدهما في الطريق بدينار، فأتى النبيّ بالشاة والدينار، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: «بارك الله لك في صفقة يمينك»(1).

اعتباره بالتمسك ببناء العقلاء، بأن يقال: إن المعتبر عندهم في أبواب المعاملات هو استناد المعنى المنشأ، والاسم المصدري إلى من بيده الإجازة، ولا يعتبرون استناد المعنى المصدري إليه.(2)
والذي فعله عروة أمران: شراء الشّاتين، وبيع أحدهما. وكلاهما وقع فضولاً. أما البيع فواضح، وأما الشراء، فلأنّ النبيّ أمره بشراء شاة واحدة. ولكنّ المهم تقريره صلّى الله عليه وآله لما فعل.
يقول الشّيخ: بإمكان إخراج الشراء عن الفضولي، بدعوى إحرازه رضا النّبي الأكرم. وأمّا البيع، بأنْ أقبض احدى الشّاتين وقبض الثمن، فقد ذكر فيه أربعة احتمالات:
1 ـ أنْ يكون فعله حراماً، لأنّه تصرّف في مال الغير قبل إجازة النبيّ.
ولكنه مناف لتقريره صلّى الله عليه وآله. فالإحتمال مردود.
2 ـ أنْ يكون فعله جائزاً في نفس الأمر، لأنّ الإجازة المتأخرة تكشف بالكشف الحقيقي عن صحّة بيعه.
قال الشيخ: وسيجئ ضعفه.
فهذا الإحتمال أيضاً مردود.
3 ـ أن لا يكون فعله فضوليّاً، لكونه مقروناً برضا النّبي صلّى الله عليه وآله، وكلّ معاملة اقترنت برضا المالك فهي ليست فضوليّة.
4 ـ أن يكون فعله فضوليّاً، لكنّه كان يعلم برضا النبي بإقباض ماله للمشتري حتى يستأذن، وعلم المشتري بكون البيع فضوليّاً، حتى يكون دفعه للثمن بيد البائع على وجه الأمانة.
وهذا الإحتمال بعيد جدّاً، إذ لا شاهد له في القصّة أصلاً.
ويبقى الإحتمال الثالث. وعليه يسقط الاستدلال بالخبر، قال الشيخ:
خصوصاً بملاحظة أنّ الظاهر وقوع تلك المعاملة على جهة المعاطاة، وقد تقدّم أنّ المناط فيها مجرّد المراضاة ووصول كلٍّ من العوضين إلى صاحب الآخر وحصوله عنده بإقباض المالك أو غيره…
أقول:
قد أشرنا إلى أن الحديث عامّي.
قال ابن رشد: روي أنّ النبي صلّى الله عليه وآله دفع إلى عروة البارقي]1 [ديناراً وقال: اشتر لنا من هذا الجَلَب شاةً. قال: فاشتريت شاتين بدينار وبعت احدى الشاتين بدينار. وجئت بالشاة والدينار وقلت: يا رسول الله، هذه شاتكم وديناركم. فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه(3).

]1[ هو في جميع المصادر العاميّة الراوية للخبر: «عروة». فما في بعض كتبنا نقلا عنهم من أنّه «عرفة» سهو. ثم إن قوله رحمه الله «الحديث عامي» إشارة إلى ضعفه سنداً، فالرّجل لاتوثيق له وإنّ كان من الصّحابة.
هذا، وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في شرح صحيح البخاري.
قوله: عن عروة. هو ابن الجعد، أو ابن أبي الجحد، وقد تقدّم بيان الصّواب من ذلك في ذكر الخيل من كتاب الجهاد.
قوله: أعطاه ديناراً يشتري له بهاشاةً. في رواية أبي لبيد عند أحمد وغيره عن عروة بن أبي الجعد قال: عرض للنبي صلّى الله عليه وآله جلب، فأعطاني ديناراً…
قوله: فباع إحداهما بدينار. أي: وبقي معه دينار. وفي رواية أبي لبيد: فلقيني رجل فساومني…
وهو في مسند أحمد بن حنبل: …عن عروة بن أبي الجعد البارقي.
قال: عرض لرسول الله صلّى الله عليه وآله جلب، فأعطاني ديناراً وقال: أيْ عروة، إئت الجلب، فاشترلنا شاةً، فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار. فجئت أسوقهما ـ أو قال: أقودهما ـ فلقيني رجل فساومني فبعته شاةً، فجئت بالدينار وجئت بالشاة فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم وهذه شاتكم. قال: و صنعت كيف؟ قال: فحدّثت الحديث. فقال: أللهم بارك له في صفقة يمينه…(4)
وفي كتاب البخاري عن شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحيّ يحدّثون عن عروة أنّ النبي صلّى الله عليه وآله أعطاه ديناراً يشتري له به شاةً، فاشترى

قوله: فدعا له بالبركة في بيعه. في رواية أبي لبيد عن عروة فقال: الّلهم بارك له في صفقة يمينه. وفيه: أنه أمضى له ذلك وارتضاه.
واستدلّ به على جواز بيع الفضولي، وتوقّف الشافعي فيه، فتارةً قال: لايصح، لأنّ هذا الحديث غيرثابت. وهذه رواية المزني عنه. وتارةً قال: إنْ صحّ الحديث قلت به. وهذه رواية البويطي.
وقد أجاب من لم يأخذبها بأنها واقعة عين، فيحتمل أنْ يكون عروة كان وكيلا في البيع والشراء معاً. وهذا بحث قويّ يقف به الاستدلال بهذا الحديث على تصرّف الفضولي. والله أعلم.(5)
له به شاتين، فباع احداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه. وكان لو اشترى التراب لربح فيه.(6)
والكلام أوّلاً في شرائه، وهنا احتمالات:
أحدها: أنْ يكون النبي صلّى الله عليه وآله قد أمر عروة بشراء شاة واحدة، كما هو ظاهر اللفظ، من دون تقييد بكون شرائه بالدينار، إذ ليس في رواية أحمد كلمة «به».
وبناءً على هذا الاحتمال يكون شراؤه الشاتين كليهما فضوليّاً.
والثاني: أنْ تكون الشاة في ذلك الزمان بقيمة دينار، فأعطاه رسول الله ديناراً لأنْ يشتري له به شاةً.
فشراؤه للشاتين فضولي كذلك.
والثالث: أنْ يكون قد أمره بشراء طبيعيّ الشاة من غير تقييد بالوحدة، فشراؤه الشاتين حينئذ لا يكون فضوليّاً.
والرابع: أنْ يكون قد أمره بشراء شاة واحدة بالدينار، لكنّه فهم من هذا الكلام جواز شراء الشاتين، من جهة أن رضاه بالشاة الواحدة بالدينار يستلزم رضاه بالشاتين بالدينار الواحد.
فشراؤه على الأوّلين فضولي، وعلى الأخيرين خارج عن الفضولي.
ثمّ الكلام في القبض والإقباض:
ولا يخفى أن حرمة القبض والإقباض في معاملة الفضولي قبل الإجازة تكليفيّة وليست بوضعيّة، فلو أحرز الفضوليّ رضا المالك باطناً بالقبض والإقباض ارتفعت الحرمة، ولكنْ لا تخرج المعاملة بذلك عن الفضوليّة.
وأمّا قبض الثمن من المشتري، فقد ذكرنا في بحوثنا أن القضايا على نحوين: القضايا الحقيقيّة، والدّواعي فيها هي العناوين الكليّة، وهي تابعة لمصاديقها، فلو تخلّف المصداق لم يتحقق الموضوع. والقضايا الخارجيّة، وليس الدواعي فيها هي العناوين، وتخلّف المصداق لا يضرّ بتحقق الموضوع.
وقبض الثمن من قبيل الثاني كما هو واضح; وقد دفع المشتري الثمن إلى عروة باعتقاده أنه البائع حقيقةً، وتخلّف الداعي لإعطاء الثمن ـ من جهة أنّ عروة كان فضوليّاً ـ لا ينافي رضا المشتري بدفع الثمن وتحقق المعاملة بينهما. إلاّ أنّ هذا لا يخرج المعاملة عن الفضوليّة.
فظهر أن إقباض عروة لمّا كان عن علم منه برضا النّبي صلّى الله عليه وآله كان جائزاً، وكذا قبض الثمن من المشتري، لأنّ المفروض رضاه بالمعاملة، لكنّ المعاملة ـ مع ذلك كلّه ـ فضوليّة.
وأمّا استظهار وقوع المعاملة على جهة المعاطاة، فلا منشأ له إلاّ قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: «بارك الله لك في صفقة يمينك»، ولكنّ الاستشهاد بهذه الجملة على المدّعى غريب جدّاً، لأنّ هذا دعاء يقال لمطلق المعاملة وإنْ كانت بالصّيغة]1[.

]1[ وقد سبقه السيّد إذ قال في حاشيته: لم أفهم وجه هذه الدعوى، ولم أدر من أين هذا الظهور.(7) وتعقبّه المحقق الإصفهاني بقوله: قلت: الظّاهر استظهاره رحمه الله
وتلخص:
إن هذه القصّة ـ بعد تسليم سندها ـ ممّا يصح الاستدلال به على صحّة معاملة الفضولي كما عليه الأصحاب.

(1) مستدرك الوسائل 13 / 245، كتاب التجارة، الباب 18 رقم: 1.
(2) المكاسب والبيع 2 / 9 ـ 12.
(3) بداية المجتهد 2/138 ـ 139.
(4) مسند أحمد 4/376.
(5) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 6 / 495.
(6) صحيح البخارى 4/187.
(7) حاشية السيد 2 / 110.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *