الكلام على الدليل الأول

الكلام على الدليل الأول
وأشكل السيّد على الاستدلال بآية الوفاء، قال:
لأنَّ المراد من قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ليس وجوب الوفاء على كلّ أحد بالنسبة إلى كلّ عقد صادر من كلّ أحد، بل هو نظير قوله تعالى (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)ونحوه خطاب بالنسبة إلى من صدر منه العقد، فيكون المعنى: اُوفوا بعقودكم الصّادرة منكم، ومن المعلوم عدم صدور العقد من المالك ولو بالواسطة، فمثل عقد الوكيل والمأذون مشمول; لأنَّه صادر عن الموكّل والآذن بالواسطة، بخلاف ما نحن فيه.(1)

أقول:
لم يذكر دليلاً على دعوى أنْ ليس المراد من الآية أنْ يفي كلّ أحد بعقد كلّ أحد.
ثم إنّ ما ذكر من اعتبار الصّراحة في العقود التي هي أسبابٌ لترتّب الآثار من الملكيّة والزّوجيّة وغير ذلك، متين، لأن السبب ـ بما هو سبب ـ لابدّ وأنْ يكون صريحاً واضحاً بجميع قيوده الدخيلة في السببيّة، أو تكون هناك قرائن تجعل الكلام بمنزلة الصّراحة، فلا يؤثّر الرّضا الباطني بأن يكون ماله ملكاً للغير، بل لابدّ من ذكر السبب، وهو الإنشاء الخاصّ بيعاً أو هبةً ـ مثلاً ـ بكلّ وضوح.
وأمّا اعتبار الوضوح والصّراحة في الشروط الخارجيّة الدخيلة في ترتّب المقتضى على المقتضي، فلا دليل عليه.
والميرزا الاستاذ(2) قد وافقه على أنّ المراد «أوفوا بعقودكم» قال: أمّا قوله عزّ من قائل: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فلأن مقابلة الجمع بالجمع يقتضي التوزيع، أي: كلّ مكلّف يجب عليه الوفاء بعقده.
كما في (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أي: كلّ يفي بنذره.
ووافقه أيضاً على ضرورة الصّراحة.
ولكنّه خالفه في التفصيل المزبور، وحكم بضرورة الصراحة وعدم كفاية الرضا الباطني، حتى في موارد مانعيّة تعلّق حق الغير التي قال السيّد بكفايته فيها، واستدلّ على ذلك بما حاصله: إن إجازة العقد يحتاج إلى التنفيذ والاستناد، وهو أمر إيقاعي، وكلّ إيقاعي يحتاج إلى دليل وأمارة عليه، ولا يتم الاستناد والتنفيذ بمجرد الرّضا الباطني.
وفيه:
صحيحٌ أن الجمع إذا اُسند إلى الجمع يقتضي التوزيع، لكن فيما إذا كان الجمع المسند إليه مضافاً إلى الفاعل، ففي (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) «النذور» مضاف إلى الضمير الراجع إلى فاعل «الوفاء»، وكذا في (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ)ونحو ذلك. أمّا إذا لم يكن الجمع الثاني المسند إليه مضافاً إلى الفاعل، فلا يقتضي التوزيع أبداً، فليس معنى قولك: «ايتوني بالكتب» أن يأتي كلّ واحد بكتابه.
والآية تقول: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وليس فيها إضافة، فلا دلالة فيها على ما ذكر في معناها.
وأمّا أنّ التنفيذ أمر إيقاعي، فصحيح، ولكنْ ما الدليل على اعتبار التنفيذ في العقود؟ إنّ الإجازة كاشفة عن الرّضا، وهو الشرط المعتبر في ترتب الأثر، ومتى كان الرّضا حاصلاً فالعقد صحيح.
ثم أقول:
إن إسناد «أوفوا» بالعقد، هو بمناسبة أنّ حقيقة العقد العهد، وأنّه يجب الوفاء به، ولمّا كان الوفاء بعهد الغير غير واجب، فالمراد أنّ على كلّ أحد أنْ يفي بعهده، فالقول بأنّ المعنى: «بعقودكم» هو الصحيح، لكنّ البرهان عليه ما ذكرناه لا ما ذكره الميرزا الاستاذ.
ثم إنّ الإضافة على نحوين، فقد تكون صدوريّةً، بأنْ يصدر شيء من الإنسان فيسند إليه، كأنْ تضاف «العقود» ـ سواء كان «العقد» مصدراً أو اسم مصدر ـ إلى الفاعل، لكونها صادرةً منه، وقد لا تكون صدوريّةً، وإنما تحصل الإضافة ولو بأدنى ارتباط، كما في: غلام زيد، جلّ الفرس، وهكذا.
وعليه، فلو قال لغيره لا على وجه التوكيل: أنا راض بأنْ تبيع داري، فباعها، اُسند البيع واُضيف إلى المالك بلا إشكال، فيكون مصداقاً لقوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)كذلك، ولو لم يتلفّظ بالرّضا وكان حاصلاً في باطنه.
فالاستدلال بالآية المباركة لكفاية الرّضا الباطني تام، والمناقشات مندفعة.
ويشهد بما قلناه ما روي عن الحميري: أنه كتب إلى صاحب الزمان عليه السلام: أنّ بعض أصحابنا له ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب للسّلطان فيها حصّة، واكرته ربما زرعوا تنازعوا في حدودها، وتؤذيهم عمّال السلطان، وتتعرض في الكلّ من غلاّت ضيعته، وليس لها قيمة لخرابها، وإنّما هي بائرة منذ عشرين سنة، وهو يتحرج من شرائها لأنّه يقال: إنّ هذه الحصّة من هذه الضيعة كانت قبضت من الوقف قديماً للسّلطان، فإن جاز شراؤها من السّلطان، كان ذلك صوناً وصلاحاً له وعمارة لضيعته، وأنّه يزرع هذه الحصّة من القرية البائرة بفضل ماء ضيعته العامرة، وينحسم عن طمع أولياء السّلطان، وإن لم يجز ذلك عمل بما تأمره به إن شاء الله.
فأجابه: الضيعة لايجوز ابتياعها إلاّ من مالكها أو بأمره أو رضاً منه.(3)

(1) حاشية المكاسب 2 / 101.
(2) منية الطالب 1 / 210.
(3) وسائل الشيعة 17 / 337، كتاب التجارة أبواب عقد البيع الباب 1 رقم: 8 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *