عدم اعتبار العجز في الإكراه الرافع لأثر المعاملات

عدم اعتبار العجز في الإكراه الرافع لأثر المعاملات
قال الشيخ:
ثم إنّ ما ذكرنا من اعتبار العجز عن التفصّي إنما هو في الإكراه المسوّغ للمحرّمات، ومناطه توقّف دفع ضرر المكره على ارتكاب المكره عليه. وأمّا الإكراه الرافع لأثر المعاملات، فالظاهر أن المناط فيه عدم طيب النفس بالمعاملة، وقد يتحقّق مع إمكان التفصّي…
أقول:
قد فرّق الشيخ في مناط الإكراه بين المحرّمات والمعاملات، فلو اُكره على شرب الخمر، وكان بإمكانه أنْ يتخلّص منه بأنْ يسكب الخمر على بدنه مثلاً، فيتخيّل المكره أنه شربه، وجب عليه ذلك ولم يكن معذوراً لو شرب، فالإكراه إنما يسوّغ المحرّمات فيما إذا عجز عن التفصّي وتوقف دفع الضّرر المتوعّد به على ارتكاب المكره عليه.
وأمّا الإكراه الرّافع لأثر المعاملات (قال): فالظاهر أن المناط فيه عدم طيب النفس بالمعاملة، وقد يكون مع إمكان التفصّي
ثمّ إنه ضرب لذلك مثالاً، قال:
مثلاً: من كان قاعداً في مكان خاصّ خال عن الغير متفرّغاً لعبادة أو مطالعة، فجاءه من أكرهه على بيع شيء ممّا عنده، وهو في هذه الحال غير قادر على دفع ضرره وهو كاره للخروج عن ذلك المكان، لكنْ لو خرج كان له في الخارج خَدَم يكفّونه شرّ المكره، فالظاهر صدق الإكراه حينئذ، بمعنى عدم طيب النفس لو باع ذلك الشيء.
بخلاف من كان خدمه حاضرين عنده، وتوقّف دفع ضرر إكراه الشخص على أمر خدمه بدفعه وطرده، فإنّ هذا لا يتحقّق في حقّه الإكراه، ويكذّب لو ادّعاه، بخلاف الأوّل إذا اعتذر بكراهة الخروج عن ذلك المنزل.
أقول:
تارةً: التفصّي بالأمر الخارجي يؤدّي إلى أن يرفع المكره اليد عن إكراهه، واخرى: يؤدّي إلى أنْ لا يتمكن المكره من إعمال ما توعّد به. وبين الصّورتين فرق، ففي الاولى يرتفع موضوع الإكراه، وفي الثانية لا يترتّب ما توعّد به.
أمّا في الاولى، فما دام لم يتحقّق التخلّص لم يرتفع الإكراه، وإمكان رفع الموضوع لا يرفعه، فلو وقع البيع في هذه الحالة فقد صدر عن الإكراه.
وأمّا في الثانية، فإنه لولم يبادر إلى التخلّص مع إمكانه وأراد البيع في هذه الحالة، لم يكن بيعه عن إكراه.
هذا، ولكنّ كلّ هذا البحث صغروي، ولذا نقول:
تارة: التخلّص ممكن وهو عقلائي ولا مانع له عنه، واخرى: يوجد المانع عن التخلّص إمّا طبيعيّاً وإمّا عقلائياً. ففي الصّورة الثانية، ليس التمكّن من التخلّص مانعاً عن صدق عنوان المكره عليه على بيعه، وفي الصّورة الاولى، يكون التمكن من التخلّص مانعاً عن كون بيعه إكراهيّاً.
وبعبارة اخرى: قولنا: بيع المكره باطل، هو في صورة البيع جرياً على الإكراه، وأمّا وقوع البيع في ظرف الإكراه، فليس بمبطل له.
والحاصل: إنه يعتبر في الحكم ببطلان البيع أمران: وجود الإكراه ووقوع البيع جرياً عليه، وإلاّ فلو باع باختياره في ظرف الإكراه لم يكن باطلاً.
فإذن، إذا كان التخلّص عقلائيّاً وموافقاً لطبعه، وأقدم على البيع تاركاً للتخلّص، كان البيع صحيحاً، لظاهر الحال، ولذا لو ادّعى أنه لم يقصد التمليك كذّب في دعواه وأخذ بظاهر حاله، وأمّا إنْ لم يكن عقلائيّاً أو كان له محذور طبعي عنه، فإنّ التمكن منه غير مانع عن كون بيعه إكراهيّاً.
قال الشيخ:
فالإكراه المعتبر في تسويغ المحظورات هو الإكراه بمعنى الجبر المذكور في الرواية، والرافع لأثر المعاملات هو الإكراه الذي ذكر فيها أنه قد يكون من الأب والولد والمرأة. والمعيار فيه عدم طيب النفس فيها…
أي: إن الأحكام الشرعيّة التكليفيّة هي الحدود الإلهيّة، ويجب رعايتها ومراقبتها والمحافظة عليها، فلا يجوز المخالفة لشيء منها إلاّ إذا اُجبر عليها الإنسان، أو اقتضت الضّرورة ذلك. وأمّا الأحكام الوضعيّة، فهي مرتبطة بنظم الاجتماع وحال النّاس، وقد رفع ما استكره عليه منّةً على العباد، ولذا قال عليه السّلام في جواب ابن سنان: الجبر من السّلطان، والإكراه من… ولا شيء في ذلك…
فالجبر هو المسوّغ في المحرّمات، والرافع للأثر في المعاملات هو الإكراه.
قال الشيخ:
فقد تلخّص مما ذكرنا: أنّ الإكراه الرافع لأثر الحكم التكليفي أخصّ من الرافع لأثر الحكم الوضعي.
أي: إنّ النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، وعطف «ما اضطرّوا إليه» على «ما استكرهوا عليه» في حديث الرفع، من قبيل عطف الخاصّ على العام، لأن «ما استكرهوا» أعم من الجبر والإلجاء، و«ما اضطرّوا» خاصّ بالضرورة.
قال:
ولو لوحظ ما هو المناط في رفع كلّ منهما من دون ملاحظة عنوان الإكراه، كانت النسبة بينهما العموم من وجه. لأن…
أي: لأن المناط في رفع الحكم التكليفي هو الضّرورة، وهو أعمّ من أن يكون من الغير أوْ لا، كالجوع والعطش، والمناط في رفع الحكم الوضعي هو عدم طيب النفس، وهو أعمّ من أن يكون هناك ضرورة أوْ لا.
ولكنّ النسبة بين المناطين بالنظر الدقيق هو التباين، لأن المناط ما ينشأ الحكم من ناحيته، والضّرورة في المحرّمات مناط ارتفاع الحرمة، واقتران الإكراه بها من قبيل اقتران ما ليس بمناط بالمناط. أمّا في المعاملات، فالأمر بالعكس، إذ لو اقترنت الضّرورة بعدم طيب النفس، لم يكن لها ـ أي للضّرورة ـ أثر، بل المناط مجرّد عدم طيب النفس.
وتلخّص من جميع ما ذكرنا:
إنّ وجه بطلان بيع المكره هو: أنّ آية التجارة دلّت على انحصار المعاملة الصحيحة بالتجارة عن تراض، فلابدّ من قصد التمليك مع الرّضا وطيب النفس، وحيث يريد التخلّص من الضّرر بالبيع، لا يكون المقصود هو التجارة عن تراض، لأنّ المتحقّق منه هو المعاملة من أجل التخلّص من الضّرر المتوعّد به، سواء لم يقصد التمليك أو قصده عن كره. نعم، لو أمكنه عدم قصد التمليك وكان ملتفتاً إلى ذلك فباع قاصداً، لم يصدق عليه عنوان الإكراه، وأمّا إذا لم يكن ملتفتاً أو كان مندهشاً فهو صادق كما لايخفى.
ثم إنّ ارتفاع الضرر إمّا بالتخلّص أو بالبيع، فيكون ترتّب الضّرر بترك أحد الأمرين، ولكنْ، لو كان عنده محذور عقلائي أو طبعي عن التخلّص، صدق عليه أنه باع مكرهاً، أمّا لولم يكن عنده محذور عن ذلك ولم يقدم عليه، كان ظاهر حاله الرضا بالبيع، فلو ادّعى عدم الرّضا لم يقبل منه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *