التحقيق في المقام

التحقيق في المقام
ولنذكر قبل بيان الحقّ في المقام مقدّمات:
1 ـ إنّ التجارة عبارة عن إنشاء البيع بقصد التمليك، فلو أنشأ بلا قصد فتلك صورة التجارة.
2 ـ إن الإنشاء خفيف المؤنة، فالإنسان قد ينشئ التمنّي أو الترجّي أو الإستفهام لقلقة لسان وبلا حقيقة، ويُنشئ الأمر وليس عنده إرادة حقيقيّة للمأمور به، وذلك، لأنّ الإنشاء نحو من أنحاء استعمال اللّفظ، فقد يكون بداعي حقيقة الاُمنيّة في النفس فيقول: ليت، وقد لا يكون، وهكذا في الترجّي والإستفهام والأمر والنهي.
3 ـ إنما يمكن الإكراه على فعل الإنسان، أمّا الامور الباطنيّة ـ كالشّوق والحبّ والإرادة والتصوّر والفكر ـ فلا يعقل الإكراه عليها.
فعلى هذا: لو أكره على البيع، فهو يريد من المكره إنشاء البيع بقصد التمليك، لكنّ الذي يقع في حيّز الإكراه هو الإنشاء، وأمّا كونه بقصد التمليك فلا، فهو بالنسبة إلى القصد الباطني ليس مكرهاً عليه، وحينئذ، يتحقّق التخلّص من الإكراه بصرف الإنشاء، وأمّا الزائد عليه فليس بمكره عليه.
4 ـ المناط في المعاملات هو الرّضا الأعمّ من الطبعي والعقلائي، ولذا يصحّ البيع لغرض إعاشة العيال وأداء الدّين، وهذا هو المراد من آية التجارة ورواية لا يحلّ… إنّما الكلام في أنّ الرّضا العقلائي يكون منشأً لإنشاء البيع فقط أو لقصد التمليك أيضاً؟ إنه لا وجه لأنْ يكون منشأً لقصد التمليك، لأنّ قصد التمليك لم يدخل في حيّز الإكراه، فلا معنى لأنْ يقال بأنّ التخلّص من الإكراه يدعو إلى قصد التمليك.
5 ـ لا فرق فيما ذكرنا بين أنْ يكون قصد التمليك هو اعتبار الملكيّة من البائع أو أنه إيجاد للملكيّة الواقعيّة، فلا يتعلّق به الإكراه، سواء كانت الملكيّة أمراً اعتبارياً أو حقيقيّاً واقعيّاً.
إذا عرفت ما تقدّم، فنقول:
لو أنشأ الإنسان البيع من دون أنْ يقصد التمليك حقيقةً، فقد أوجب صورة التجارة، ولم يوجد حقيقة التجارة، فهو نظير ما إذا قال ليت كذا ولعلّ كذا من دون أنْ يكون متمنّياً أو مترجّياً حقيقةً، وما إذا أمر بشيء إمتحاناً، فإنه صورة الأمر وليس بأمر.
وعليه، فإنّ التمكّن من التخلّص بالتورية أو بوجه آخر، إنّما يرتبط بإنشاء البيع، وأمّا من لم يقصد حقيقة التمليك فلا يختلف الحال بالنسبة إليه، لأنّ من يقدر على عدم إيجاد البيع الحقيقي لا يحتاج إلى التخلّص من الضّرر لا بالتورية ولا بغيرها، لأنّ المفروض تخلّصه من ذلك بإنشاء البيع صورةً.
والحاصل: إنّ دخل عدم التمكّن من التخلّص بالتورية في حقيقة الإكراه، يرجع إلى حيثيّة إنشاء البيع، فإنه إنْ أمكنه ذلك لم ينشئ البيع، وأمّا دخل عدم التمكّن منه في قصد التمليك الذي هو البيع حقيقةً فلا، والبحث عن ذلك فيه لغو.
فإنْ قلت:
إن كان إنشاء البيع بلا قصد للتمليك بيعاً صوريّاً، فكيف تقولون بأنه إنْ رضي بعد ذلك ترتّب الأثر عليه؟
قلت:
قد ذكر الشيخ في المباحث الآتية إيراداً وأجاب عنه: بأنّ العقد الواقع عن الإكراه لا ينقلب عمّا وقع عليه، إلاّ أنّ الرضا اللاّحق يؤثّر في النقل والانتقال.
وتوضيحه: أنا في البيع نحتاج إلى أمرين، أحدهما: الإنشاء، والآخر: قصد التمليك، فلو أنشأ مكرهاً ثم رضي بذلك، فإنّ رضاه هو قصد التمليك، وبذلك يتم النقل والانتقال.
فإنْ قلت:
كان الإنشاء عن إكراه، فكيف يكون مؤثّراً بتعقّب الرضا؟
قلت:
حديث الرفع امتناني، وعدم تأثير الإنشاء مع مجئ الرّضا الباطني وقصد التمليك جدّاً بعده، خلاف الامتنان.
وتلخص:
إن من الممكن التخلّص من الضّرر بعدم قصد التمليك، أعمّ من إمكانه بالتورية أو بوجه آخر.
ثم اعلم، أنّ الأثر هو للمقيّد والقيد، أي: إنشاء البيع بقيد أنْ يكون بقصد التمليك، فالمركّب بما له من الوحدة التركيبيّة هو ذو الأثر، والمركّب من الداخل والخارج خارج.
وعليه، فإذا أنشأ البيع وقصد التمليك لدهشة غافلا عن إمكان التورية، وعن إمكان عدم قصد التمليك، فقد وقع عن الإكراه، ولا يكون بيعه تجارة عن تراض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *