هل يبقى حق الأولوية بعد خروج العين عن الملكيّة؟

هل يبقى حق الأولوية بعد خروج العين عن الملكيّة؟
ثم قال:
إنّ هنا قسماً رابعاً، وهو ما لو خرج المضمون عن الملكية مع بقاء حق الأولويّة فيه، كما لو صار الخلّ المغصوب خمراً…
والذي في عبارة الفقهاء العصير العنبي المنقلب خمراً، وهذا أولى، والأمر سهل.
وقد وقع الخلاف بينهم في وجوب ردّ هذه العين مع دفع قيمتها إلى المالك.
فعن القواعد(1): الإشكال في وجوب الردّ.
قال الشيخ: ولعلّه: من استصحاب وجوب ردّها، ومن أن الموضوع في المستصحب ملك المالك، إذ لم يجب إلاّ ردّه ولم يكن المالك إلاّ أولى به.
وعن جماعة منهم الشهيدان والمحقق الثاني(2) وجوب الردّ.
وأمّا الإستصحاب، فقد أجاب عنه بأنّ الموضوع في الإستصحاب عرفي، أي: إنّ تشخيص الموضوع بيد العرف وليس بالدقة العقليّة، والمستصحب هنا نفس الموجود الخارجي وقد كان الحكم بوجوب الردّ مترتّباً عليه، والآن إذا شك في الوجوب استصحب الحكم لبقاء الموضوع.
قال: ويؤيده أنه لو عاد خلاًّ ردّت إلى المالك، بلا خلاف ظاهر.
أي: لولم تكن علقة بين المالك وهذا الموجود الخارجي، لما وجب ردّه إليه، بل جاز ردّه إلى غيره أو أخذه لنفسه، وهذه هي الأولويّة وحقّ الاختصاص.
وملخّص كلام الشيخ: أن ما خرج عن الماليّة والملكيّة يردّ على من كان يملكه لأولويّته به.
فأقول:
إنّ القول ببقاء الأولويّة بعد زوال الملكيّة، يبتني على أنّ تكون الملكيّة ذات مراتب، والأولويّة بالشيء هي المرتبة الضعيفة منها.
وبعبارة اخرى: واقع الملكيّة هو اختصاص الشيء بالشّخص، والاختصاص ذو مراتب، والملكيّة هي المرتبة الشديدة، والأولويّة هي المرتبة الضعيفة، فلو زالت المرتبة الشديدة بانقلاب الخلّ خمراً، لم يكن زوالها مستلزماً لزوال المرتبة الضّعيفة، ومع الشك في زوالها يستصحب بقاء الاختصاص، ولذا قال الشيخ في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي: أنه لو زالت المرتبة الشديدة من الحُمرة يقيناً واحتمل بقاء المرتبة الضعيفة منها، أمكن استصحاب بقاء الحمرة.
والتحقيق خلاف ذلك، لأن «الملكيّة» و«الحق» ليسا من المقولات التسع، بل هما أمران اعتباريان، والامور الاعتباريّة لا تقبل الشدّة والضعف، بل هي قائمة بنفس المعتبر، ويدور أمرها بين الوجود والعدم.
وبعبارة اخرى: المراتب إنما هي في الأعراض التسعة ـ لا كلّها، فلا تعقل في مقولة الإضافة والنسبة ـ والملكية ليست منها.
وربما يقال: الأولويّة بالعين الخارجيّة من آثار الملك لها، وإذا زالت الملكية فلا مانع من بقاء أثرها، ولو شككنا في بقائها تستصحب.
وفيه: إنّ أولويّة الإنسان بملكه حكم تكليفي مترتّب على ملكيّته له، فهو أولى بالتصرّف فيه من غيره، والحكم يرتفع بارتفاع موضوعه، لا أنّ هناك أولويّةً وضعيّةً به زائدةً على الملكيّة، حتى يقال ببقائها بعد زوال الملكيّة، وهذا معنى كلام العلاّمة في القواعد، وهو متين جدّاً.
وعلى الجملة، فإنّ الأولويّة قد تكون مجعولة بنفسها كما في المباحات الأوليّة، وهذا لا إشكال فيه، وأمّا الأولويّة الباقية بالنسبة للشيء بعد زوال الملكيّة عنها، فلا دليل عليها كما عرفت.
والميرزا الاستاذ يقول:
وإنما الكلام في القسم الثالث في أن حق الإختصاص بهذا الباقي هل هو للمالك أو للضامن أو لمن يسبق اليه ففيه وجوه أقواها الأول، وذلك لأن حق الاختصاص إنما هو مرتبة ضعيفة عن الملكية تكون منشأ ضعفه، إما لقصور في الإضافة أوفي أحد طرفيها بأن لايكون الطرف قابلا لأن يتعلق به إضافة الملكية،، والحق والملك مشتركان تحت جامع واحد وهو الواجدية، وحينئذ نقول: هذا الباقي بعد التلف كان قبله متعلّق الإضافة الملكيّة التي هي إضافة شديدة، وبعد التلف لمكان قصور هذا الباقي عن أن يتعلق بها الإضافة الشديدة تزول عنها الشدة وتبقى الإضافة بمرتبة ضعيفة وهي الحق والحق لم يحدث للمالك بعد زوال الملكيّة من كتم العدم حتى يسأل عن سببه، نظير حدوث الاستحباب بعد زوال الوجوب، بل هو عين تلك الإضافة الثابتة قبل تلف التالف لكن بمرتبة ضعيفة منها، فلايحتاج إلى سبب جديد.(3)
وقد تقدّم ما فيه، لأنّ الملكيّة أمر اعتباري، والاعتبارات ليست من الأعراض لتكون قابلةً للشدّة والضعف.
كما تقدّم ما في التقريب الثاني.
وقد قرّب ثالثاً: بأنّ من الضروريّات كون الإنسان أحقّ بملكه، فهناك حقٌ للمالك في ملكه مضافاً إلى الملكيّة.
وفيه: إنّ اعتبار الأولويّة مقارناً لاعتبار الملكيّة لغوٌ.
ورابعاً: إنه بعد الفحص الطّويل لم نظفر بدليل لملكيّة الأرض الموات بالحيازة إلاّ الرواية: «لليد ما أخذت»(4). وهذه اللاّم تفيد الاختصاص، ففي كلّ شيء يقع بيد الإنسان سببان ومسبّبان: أحدهما اليد وهو سبب الاختصاص، والآخر البيع ـ مثلاً ـ وهو سبب الملكيّة، وإذا زالت الملكيّة لزوال المقتضي لها بقيت الأولويّة لبقاء المقتضي لها.
وفيه: إنّ الخبر المزبور إنما هو في المباحات ولا علاقة له بغيرها.
وخامساً: إنه لا خلاف ـ كما ذكر الشيخ ـ في ردّ الخمر إذا عاد خلاًّ إلى المالك، وهذا يكشف عن وجود الأولويّة بالخمر إجماعاً، وإلاّ فلا وجه لوجوب الردّ على المالك.
وفيه:
أوّلاً: قال في الجواهر(5): إنه بصيرورته خمراً خرج عن ملك المالك وصار المثل في ذمة الغاصب لأنه تلف أو بمنزلته، فإذا صار خلاًّ لا دليل على عوده إلى ملك المالك، بل يمكن أن يكون من المباح، يملكه من سبق إليه أو يكون من هو في يده أولى به.
وثانياً: هذا الإجماع ليس بالإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه السلام.
وتلخص: عدم الدليل على الأولويّة مطلقاً.
وأمّا وجوب الردّ، فقد قال المحقّق الخراساني: إنّ الموضوع بمقتضى على اليد هو نفس العين لا ببعض عناوينها، وهي حقيقة باقية، فلا إشكال في صحّة استصحاب وجوب أدائها أصلاً، مع أنّ استصحاب حقّ الإختصاص الذي حصل للمالك قبل دفع القيمة وبعد الإنقلاب بلا ارتياب، فإنّ البحث في ارتفاعه بدفعها لافي حدوثه بسببه فتأمل(6)
وحاصله: إنّ موضوع قاعدة اليد نفس العين المأخوذة، ولم يكن عنوان الملكيّة وغيرها دخيلاً في الموضوع، والمفروض بقاء العين، ومع الشك في وجوب ردّها يجري الاستصحاب.
وفيه:
إنْ كان مفاد حديث على اليد هو الحكم التكليفي تمّ كلامه بلا كلام، لأن الأفعال الخارجيّة من الأخذ والرؤية واللّمس وغيرها إنما تتعلّق بالموجودات الخارجيّة ولا تدخل العناوين في حيّزها. وأمّا بناءً على إفادته للحكم الوضعي فلا. وبعبارة اخرى: إنّ معنى «على» في هذا الحديث يختلف عنه في مثل «عليه الوضوء» ونحوه من الموارد، فهنا يفيد الحكم الوضعي وهو الضمان لا الحكم التكليفي كما في تلك الموارد، ولذا يجب دفع المثل أو القيمة إذا تلف المأخوذ استدلالاً بالحديث وغيره من الأدلّة، ولو كان حكماً تكليفيّاً لسقط بعدم القدرة عليه.
وأيضاً: لو سقطت العين عن الماليّة مع وجودها، لم يخرج عن العهدة بردّها، وهذا يكشف عن دلالة الحديث على الحكم الوضعي، فلو كان مفاده الحكم التكليفي لكفى ردّ العين وخرج عن العهدة.
وقول المحقّق الخراساني: إن استصحاب حق الاختصاص… ردٌّ على كلام الشيخ بأنّ موضوع الاستصحاب عرفي، لأنه لمّا صار الخلّ أو العصير خمراً ولم يدفع الضامن الغرامة، كان يجب الردّ بلحاظ حق الاختصاص، فلو شك في وجوبه بعد دفع الغرامة، استصحب وجوب الردّ.
ولكنّه مردود، لعدم ثبوت حقّ الاختصاص بوجه من الوجوه كما عرفت.
وتقريب كلام الشيخ هو: إنّ الحكم الشرعي وتعيين الموضوع له بيد الشّارع، إلاّ أن العرف يشخّص الموضوع من ظاهر الدليل المشتمل على الموضوع والحكم، فما شخّصه العرف واستظهره هو الذي يجري فيه الإستصحاب وتقتضي الأدلّة بقائه عند الشك. وعليه، فكما يرجع إلى العرف في معنى قوله عليه السّلام: «ماء البئر إذا تغير ينجس»، إذ يفهم منه كون التغيّر علّةً لعروض النجاسة على ذات الماء، ثم لو زال التغيّر من قبل نفسه ووقع الشك في بقاء النجاسة ـ من حيث أنه هل كان التغيّر سبباً للنجاسة حدوثاً وبقاءً أو حدوثاً فقط ـ تستصحب النجاسة. كذلك في ما نحن فيه، فإنّ وجوب الردّ للعين الخارجيّة كان مسبّباً عن الملكيّة، ومع الشك في أنّ الملكيّة سبب لوجوب الردّ حدوثاً وبقاءً أو حدوثاً فقط، يجري استصحاب وجوب الردّ بعد زوال الملكيّة.
وقد وافقه شيخنا الاستاذ(7) وأفاد بما حاصله: إنّ الملكيّة في المقام حيثيّة تعليليّة، أي: إنه قد ترتّب بعلّة الملكيّة وجوب الردّ على العين، لا أنّه يجب ردّها بقيد كونها ملكاً، فإذا كانت علّةً وشكّ في بقاء الحكم بعد زوالها، استصحب الحكم، بخلاف ما إذا كانت قيداً، فإنّه بعد زوالها يزول الحكم بتبعها، ولا مجال للإستصحاب.
والتحقيق: إنّ العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام على ثلاثة أقسام:
أحدها: إنه عنوان مشير فقط ولا دخل له أصلاً، مثل: أكرم زيداً الجالس.
والثاني: إنه عنوان يدور الحكم مداره حدوثاً وبقاءً، مثل: تعطى الزكاة للمسكين، صلّ خلف العادل، المسافر يقصّر، المقيم يُتمّ، وهذا هو الأكثر.
والثالث: إنه علّة حدوث الحكم، مثل: الماء إذا تغير ينجس.
إذن، فلابدّ من استكشاف كيفيّة الموضوع من الدليل، فإن كان العنوان هو الملاك للحكم، دار الحكم مداره لا محالة، كما في: صلّ خلف العادل ونحوه، وإلاّ يلزم كون الحكم بلا ملاك إذا زال العنوان، وكذا السّفر بالنسبة إلى قصر الصّلاة، وهكذا.
ولو شككنا في عنوان مأخوذ في حيّز الحكم أنه هو الملاك ليدور مداره حدوثاً أو بقاءً أوْ ليس هو الملاك له، لم يجر الاستصحاب أصلاً.
وهذه هي القاعدة الكليّة.
وحينئذ نقول: إنه لا أقلّ من الشك في كون «الملكيّة» هي «الملاك» لـ«وجوب الردّ»، وحينئذ لا يجري الاستصحاب، لعدم إحراز الموضوع.
وهذا هو الجواب الصّحيح عن كلام الشيخ والوجه الذي أفاده شيخنا الاستاذ قدّس سرّهما.
هذا أوّلاً.
وثانياً: ما هو الدليل على وجوب الردّ؟
إنْ كان أخبار: «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غير إلاّ بإذنه» بتقريب أنّ الإمساك تصرّف، وإذا حرم فيجب الردّ. فلا شبهة في أنّ الموضوع فيها هو «المال»، وما سقط عن الماليّة ـ وإنْ كان ملكاً ـ فلا دليل على حرمة التصرّف فيه، ولذا جازت الصّلاة في الثوب المخيط بالخيط الذي هو ملك للغير، كما تقدّم، وما نحن فيه من هذا القبيل.
وإنْ كان ما ورد في بعض أخبار الأنفال من أن صوافي الملوك للإمام إذا لم يكن غصباً، «لأن الغصب كلّه مردود»(8) ففيه:
أوّلاً: البحث لا يختصّ بالغصب، بل يجري في موارد كثيرة، كما ذكرنا من قبل، فالدليل أخصّ من المدّعى.
ثانياً: إنّ هذه الرواية إنّما تنطبق على شيء مضاف إلى المالك، بالإضافة الملكيّة أو الماليّة أو الحقيّة. وفيما نحن فيه: لا إضافة ملكيّة ولا مالية والحقيّة أوّل الكلام.
وإنْ كان قاعدة اليد، فقد تقدّم ما فيه.
إذن، لا دليل على وجوب الردّ حتّى يستصحب.
وأمّا قول الشيخ:
ويؤيّده أنه لو عاد خلاًّ ردّت إلى المالك، بلا خلاف ظاهر.
وقد تقدّم منّا وجه التأييد، وعدم تماميّة الاستدلال بالإجماع صغرىً وكبرىً.
فقد أجاب شيخنا الاستاذ عن ذلك(9) بما تقريبه: تارةً: يقع البيع على الخمر، وهذا فاسدٌ بلا كلام. واخرى: يشتري الخلّ، فيكون سبباً مصحّحاً لاعتبار الشارع الملكيّة، ثم ينقلب الخلّ خمراً، فيحصل الرافع للاعتبار الشرعي وبذلك تنتفي الملكيّة، فإنْ زال المانع بعود الخلّ خمراً أثّر المقتضي أثره وتترتب الملكيّة.
فظهر أنّ الدليل على فتواهم بوجوب الردّ في هذه الصّورة هو قاعدة المقتضي والمانع، لا الأولويّة كما ذكر الشيخ.
وعندنا أنّ حقّ الأولويّة ثابت، وذلك ببيان آخر:
إنّ الدليل القائم على أنّ «لليد ما أخذت» ظاهرٌ في أنّ الإحاطة بالشيء والسّلطنة التامّة عليه توجب الاختصاص، ولذا كانت اللاّم موضوعةً للاختصاص، فإذا جاءت الملكيّة الشرعيّة أفادت السّلطنة والاختصاص كذلك، ولمّا كان اجتماع المثلين محالاً، فإنّ أقواهما يبقى ويسقط الآخر، ثم لو زال المماثل الأقوى عاد المماثل الضعيف ليؤثّر أثره.
وعلى هذه القاعدة نقول: إذا زالت الملكيّة عادت اليد لتؤثّر أثرها وهو الإختصاص والأولويّة.
وأيضاً: يمكن أنْ يستكشف من الإجماع المدّعى كون الأولويّة بعد زوال الملكيّة من الإرتكازات العقلائية.
وهكذا يتمّ القول بثبوت الأولويّة بعد سقوط الوجوه الخمسة المذكورة في كلمات الأعاظم، والله العالم.

(1) قواعد الأحكام 1 / 206.
(2) الدروس الشرعية 3 / 112، مسالك الإفهام 2 / 214، جامع المقاصد 6 / 292.
(3) المكاسب والبيع 1 / 383 ـ 384.
(4) وسائل الشيعة 23 / 391، أبواب الصيد، الباب 38 رقم: 1: محمد بن يعقوب بإسناده عن السكوني عن أبي عبدالله عليه السلام: أن أميرالمؤمنين قال في رجل أبصر طيراً فتبعه حتى وقع على شجرة فجاء رجل فأخذه: للعين ما رأت ولليد ما أخذت.
(5) جواهر الكلام 37/200.
(6) الحاشية على المكاسب: 25.
(7) حاشية كتاب المكاسب 1 / 444.
(8) وسائل الشيعة 25 / 386، كتاب الغصب، الباب 1 رقم: 3.
(9) حاشية كتاب المكاسب 1 / 445.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *