ما يوهن الاستدلال على اعتبار يوم القبض

ما يوهن الاستدلال على اعتبار يوم القبض
ثم إنّ الشيخ ـ بعد أنْ استظهر من الصحيحة كون الملاك قيمة «يوم المخالفة» وإليه أرجع «يوم الإكتراء» ـ تعرّض لما يوهن ذلك، فقال:
نعم، يمكن أن يوهن ما استظهرناه من الصحيحة بأنه: لا يبعد أنْ يكون مبنى الحكم في الرواية…
وحاصله: إنّ التعبير بيوم المخالفة إنما جاء لخصوصيّة في مورد الرواية وهي قلّة المدّة، ـ فإنّ البغل وغيره من الحيوانات ـ مثلاً، لا يختلف قيمتها في مدّة خمسة عشر يوماً ـ لا لكون الملاك هو يوم المخالفة ليؤخذ به في سائر الموارد حتّى فيما لو طالت المدّة، ويكون السرّ في التعبير بذلك هنا دفع ما ربما يتوهّمه أمثال صاحب البغل من العوامّ من أنّ العبرة بقيمة ما اكتري به البغل وإنْ نقص بعد ذلك.
ثم أيّد هذا الاحتمال فقال:
ويؤيّده التعبير عن «يوم المخالفة» في ذيل الرواية بـ«يوم الإكتراء». فإن فيه إشعاراً بعدم عناية المتكلّم بيوم المخالفة من حيث أنه يوم المخالفة.
ثم ضعّف هذا التأييد: بأنّ الملاك هو «يوم المخالفة»، إلاّ أنّ في التعبير بعد ذلك بـ«يوم الاكتراء» نكتةً، وهي التنبيه على سهولة إقامة الشهود على قيمته في زمان الاكتراء، فتغيير التعبير ليس لعدم العبرة بزمان المخالفة.
ثمّ أمر بالتأمّل.
ووجهه: أنه لو لم يكن للتعبير بـ«يوم الإكتراء» دخلٌ، وإنما جي به لمجرّد النكتة المذكورة فالعبرة بيوم المخالفة فقط، لقال عليه السّلام: أو يأتي بشهود يشهدون أن قيمة البغل كذا وكذا، لكنّه قال: «قيمة البغل يوم اكتري»، فيظهر أنّ ليوم الاكتراء دخلاً في المطلب وليس للتنبيه على سهولة إقامة الشهود على القيمة، بل فيه إشعار بعدم عناية المتكلّم بيوم المخالفة من حيث أنه يوم المخالفة، فالصحيحة غير صالحة لرفع اليد بها عن إطلاقات الضمان، بل هي باقية على قوّتها.
قال الشيخ:
ويؤيّده أيضاً قوله عليه السّلام في ما بعد في جواب قول السّائل: ومن يعرف ذلك؟… فإنّ العبرة لو كانت بخصوص يوم المخالفة لم يكن وجه لكون القول قول المالك مع كونه مخالفاً للأصل، ثم لا وجه لقبول بيّنته…
فقوّى الإشكال في كون الملاك يوم المخالفة بما جاء في الصحيحة من قول الإمام عليه السّلام: «إمّا أنْ يحلف فيلزمك أو يرد الحلف عليك فيلزمه أو يأتي بشهود يشهدون أن قيمة البغل يوم اكتري كذا وكذا». فإنه يفيد كون زمام الأمر بيد المالك، فإمّا يحلف أو يردّه أو يقيم الشهود؟ فلماذا يقبل قوله مع كونه مخالفاً للأصل. هذا أوّلاً.
وثانياً: إنْ كان منكراً فعليه الحلف ولا تطلب منه البيّنة، وإنْ كان عليه إقامة البيّنة، فلا وجه لأنْ يحلف أو يردّ الحلف، فكيف اُجري في حقّ المالك ما على المدّعي وعلى المنكر معاً؟
قال:
وحمل الحلف هنا على الحلف المتعارف… خلاف الظاهر.
لأنّ «الحلف» و«ردّ الحلف» و«البيّنة» ونحوها عناوين تناسب الترافع، فلابدّ من حمل «الحلف» على المعنى الترافعي، وحمله على المعنى العرفي خلاف الظّاهر. وهذا كلام متين.
لكنّ الإشكال ـ من كلتا الجهتين ـ يرتفع بناءً على القول باعتبار يوم التلف، قال:
وهذا بخلاف ما لو اعتبرنا يوم التلف، فإنه يمكن أنْ يوجّه اليمين على المالك…
إنه لمّا وقع الجمع في الصحيحة بين وظيفة المدّعي ووظيفة المنكر، وجمعهما غير معقول وغير مشروع، فإنه تحمل بدلالة الاقتضاء على صورتين من الترافع، يُتصوّران على القول باعتبار يوم التلف دون القول بيوم المخالفة، فالصحيحة تفيد أن الملاك قيمة يوم التلف.
الصّورة الاولى: أنْ يتّفقا على أنّ قيمة البغل سابقاً كذا، لكنّ الغاصب يدّعي تنزّلها في يوم التلف والمالك منكر، فيكون قول المالك موافقاً لاستصحاب بقاء القيمة على ما كانت عليه.
والصّورة الثانية، أنْ يتّفقا على عدم تنزّل القيمة، غير أنّ المالك يدّعي أنّ القيمة كانت ثلاثمائة درهم مثلاً، والغاصب يقول بل كانت قيمتها مائتين، فعلى المالك إقامة البيّنة على ما يدّعيه من القيمة الإضافيّة.
فظهر أنّ ما جاء في الصحيحة يتوجّه على القول بأنّ الملاك هو يوم التلف، وأمّا توجيهه على القول بكونه يوم المخالفة فبعيد، قال:
وأمّا على تقدير كون العبرة بيوم المخالفة، فلابدّ من حمل الرواية على ما إذا اتّفقا على قيمة اليوم السابق على يوم المخالفة أو اللاّحق له، وادّعى الغاصب نقصانه عن تلك يوم المخالفة. ولا يخفى بعده.
ومراده من «قيمة اليوم السّابق على يوم المخالفة» هو الصّورة الاُولى. ومن «اللاّحق له» هو الصّورة الثانية، وإنْ كانت العبارة غير وافية به.
أمّا في الصّورة الاولى، فالمالك منكر. وأمّا في الثانية، فالمالك يدّعي.
وما ذكره حقّ، فإنّه بناءً على الاتحاد بين «يوم المخالفة» و«يوم الاكتراء» يكون تنزّل القيمة بعيداً، وأمّا أنْ تكون قيمته قبل المخالفة بسنة ـ مثلاً ـ فلا بعد، كما لا يخفى.
هذا بيان مطلب الشّيخ رحمه الله، فأقول:
أوّلاً:
لفظ الصحيحة هو: «فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو عقر؟ فقال عليه السّلام: عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه. قلت: فمن يعرف ذلك؟…» وقوله: «فمن يعرف ذلك؟» بعد كلام الامام عليه السّلام ظاهر في السؤال عمّن يعرف «قيمة ما بين الصحّة والعيب» لا من يعرف قيمة البغل.
وثانياً:
إنه ـ بناءً على أنّ «من يعرف ذلك» أي: من يعرف ما بين الصحة والعيب ـ يمكن توجيه كلتا الصّورتين، بأنْ يقال:
في الاولى: أنْ يتّفقا على أن قيمة صحيح البغل ثلاثمائة درهم، فيدّعي الغاصب أن قيمة المعيب مأئتان، فعليه دفع مأة درهم، والمالك ينكر المأئتين ويقول قيمته معيباً مائة، فهما متفقان على قيمة الصحيح ومختلفان في قيمة المعيب، والمنكر هو المالك وعليه الحلف أو ردّه.
وفي الثانية: أنْ يتّفقا على أنّ قيمة المعيب مائة درهم، فيقول الغاصب أن قيمة الصحيح مأتان، فيجب عليه دفع مائة درهم، ويقول المالك بل قيمته ثلاثمائة، فيجب على الغاصب دفع مائتين. فالمدّعي هو المالك وعليه إقامة البيّنة.
وعلى هذا، تصبح الصحيحة أجنبيّة عن مورد البحث تماماً.
وثالثاً:
لفظ الصّحيحة: «إمّا أنْ يحلف… أو يأتي بشهود»، وظاهره أنّ كليهما في عرض واحد والمالك مخيّر بينهما، فحمل الرواية على أنها ناظرة إلى تعدّد الصّورة بلا وجه، ولذا قال المحقق الخراساني:
يمكن أن يقال: إن الإمام عليه السّلام إنما يكون بصدد الإشارة إلى مالا يقع معه الخصومة، لا في مقام بيان موازين الحكومة لدى التشاجر والمخاصمة، حيث أن الإنسان يحصل له الاطمينان بحلف خصمه غالباً لو لم يكن دائماً. فكان مراده من الحلف أو الردّ: الحلف في صورة اطمينانه بمقدار القيمة دون صاحبه، والردّ في صورة العكس، فيحصل للجاهل منهما الاطمينان بحلف الآخر. فتدبر(1).
والحاصل، فلو كانت دلالة الاقتضاء مقتضيةً لتعدّد الصّورة، كذلك تقتضي حمل «الحلف» على المعنى العرفي لا المصطلح في باب الترافع، فما المرجّح لما ذكره؟
ورابعاً:
إنّ «الحلف» و «إقامة البيّنة» يكون عند الحاكم، وليس في الصّحيحة ذكرٌ منه، ولو كان المورد من قبيل الترافع لما أرجع الإمام عليه السّلام الأمر إليهما، بل أَمَر بالتحاكم إلى الحاكم الشّرعي. وهذا يكشف عن أنّ الحمل على ما قلناه أولى من الحمل على ما ذكره الشيخ.

(1) الحاشية على المكاسب: 25.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *