الإعتدال بين الغلو و التقصير

الإعتدال بين الغلو و التقصير
ولكي نكون على معرفة بالأئمّة عليهم السّلام، لابدّ لنا من استقصاء كلماتهم حتى نتفّهم مراتبهم التي رتبهم الله فيها، دون أن نقع في متاهات الغلو أو نضلّ في مرديات التقصير، لأن كليهما حرام.
وهذا ما نجده في خطاب الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام لأبي حمزة الثمالي إذ قال له:
«يا أبا حمزة، لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه الله، ولا ترفعوه فوق ما رفعه الله»(1).
وفي رواية أخرى يقول عليه السّلام:
«فإن الغلاة شرّ خلق الله، يصغّرون عظمة الله، ويدّعون الربوبيّة لعباد الله، والله، إنّ الغلاة لَشرٌّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا»(2).
وهناك نصّ آخر عنه عليه السّلام في هذا الصّدد، يعطينا مناراً نستدلّ به في بعض البحوث، يقول فيه عليه السّلام:
«كان عليّ عليه السّلام ـ والله ـ عبداً لله صالحاً، أخو رسول الله(3) ما نال الكرامة من الله إلاّ بطاعته لله ولرسوله…»(4).
فأيّ كرامة هذه التي نالها أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام بعبوديته وعبادته وطاعته لله جلّ وعلا؟
فاتّضح لنا من خلال الروايات الآنفة الذكر وأمثالها مواقف الأئمّة عليهم السّلام المتشددة في مواجهة ضلال الغلاة وخطر الغلو.
ومن خلال ذلك أيضاً تبيّن معنى الغلوّ بما فيه من تأليه النبيّ والاعتقاد بنبوّة أو ألوهيّة الإمام، أي أنْ يتجاوز الإنسان الحدّ في منزلة النبي والإمام، بأن يعتقد أكثر مما هو للنبي أو الإمام، أو يقول بأنه شريك لله.
والخلاصة هي: إن الأئمّة والنبي ليسوا بآلهة ولا شركاء لله سبحانه ولا حلّ فيه ولا آتحدوا. والإعتقاد بشيء من هذه المفاهيم هو مصداق للغلو في النبي والإمام.
فهم في الوقت الذي يأمروننا أن نقول: «هم عبيد مربوبون» يقولون:
«قولوا فينا ما شئتم».
وهم في الوقت الذي ينهوننا عن أنْ نقول: «هم أرباب» يقولون:
«قولوا فينا ما شئتم».
ثم يقولون: «لن تبلغوا» أي: لا يمكننا درك واقع شأنهم ومنزلتهم عند الله!
لقد عرّفوا أنفسهم في الزيارة الجامعة بأنهم:
«عباده المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون».
وهذا المعنى مأخوذ من القرآن الكريم ـ كما سيأتي في محلّه ـ حيث يقول تعالى:
(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(5).
وخلاصة الكلام: إنه مع حفظ صفتي العبودية والمخلوقية للأئمة عليهم السّلام، لنا أن نقول فيهم ما نشاء.
ولنتسائل: ما هي الكرامة الممنوحة من الله جلّ وعلا؟ وأيّ منزلة هذه التي حظي بها هؤلاء السّادة، بحيث أصبحوا «لا يفعلون إلاّ ما يُؤمرون»؟
وجاء في رواية صحيحة ـ بل هي متواترة من طرق الخاصّة والعامة ـ عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال في علي عليه السّلام إنه:
«لا يفعل إلاّ ما يؤمر به»(6).
فنحن لسنا مغالين، بل نُهينا عن الغلو بأن نقول: إنَّ الإمام نبيّ، فضلاً عن قولنا: إنه ربّ.
إن الذي نقوله هو: أن الأئمّة عباد الله، حازوا على مقام عند الله، وبلغوا شأناً من الشأن لم ولن يبلغه أحد من العالمين.
اُنشدِكم بالله، هل في هذا غلوّ؟
أين محلّ الغلوّ في شخص إذا بلغ على أثر عبوديته لله أن يمنحه الله تعالى كلّ هذا الدنوّ والإقتراب من العليّ الأعلى؟

(1) بحار الأنوار 25 / 283 و 39 / 306.
(2) بحار الأنوار 25 / 265 و 284.
(3) بحار الأنوار 25 / 265 و 284.
(4) بحار الأنوار 25 / 286.
(5) سورة الأنبياء، الآية: 26 و 27.
(6) المعجم الأوسط 6 / 162، تاريخ مدينة دمشق 42 / 191، كنز العمال 11 / 612.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *