الكلام في الرواية: إنّما يحلّل الكلام…

الكلام في الرواية: إنّما يحلّل الكلام…
قوله:
بقي الكلام في الخبر الذي تمسّك به في باب المعاطاة، تارةً على عدم إفادة المعاطاة إباحة التصرّف، واخرى على عدم إفادتها اللّزوم… وهو قوله صلى اللّه عليه وآله: إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام. وتوضيح المراد منه… .
أقول:
عن خالد بن الحجّاج ـ كما في التهذيب(1) ـ أو ابن نجيح كما في الكافي(2) قال: «قلت لأبي عبداللّه عليه السّلام: الرجل يجيئني ويقول: اشتر لي هذا الثوب وأربحك كذا وكذا.
فقال: أليس إنْ شاء أخذ وإنْ شاء ترك؟
قلت: بلى.
قال: لا بأس. إنما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام(3).
وليس قوله: اشتر لي هذا الثوب… توكيلاً له في الشراء، وإلاّ لقال: لك أجرة كذا وكذا، بدلاً عن: أربحك كذا وكذا.
وفي قوله: «اشتر لي» احتمالان، أحدهما: إلزامه بالاشتراء، كنايةً عن أني قد اشتريت منك بالفعل ما ليس عندك بربح. والثاني: الطلب منه لأن يشتري لنفسه ثم يبيعه الشيء بربح، فلا تكون المعاملة واقعةً بالفعل وإنما هي مواعدة ومقاولة. والثاني، لا إشكال فيه دون الأوّل.
قوله:
إن هذه الفقرة ـ مع قطع النظر عن صدر الرواية ـ تحتمل وجوهاً… .
أقول:
فذكر أربعة وجوه.
وقوله: مع قطع النظر… إشارة إلى أنه لا مجال لشيء من الاحتمالات بالنظر إلى صدر الرواية، لأن الذي فيه هو الكلام المعاملي لا مطلق الكلام والَّلفظ.
وأمّا الوجوه:
فالأوّل: أن تكون الحليّة والحرمة منوطين بالتلفّظ، فلابدّ من النطق الدالّ، سواء بالدّلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة، وأنه لا يكفي القصد والنّية ولا العمل الخارجي، فيكون مدلول الخبر: عدم إفادة المعاطاة الملكيّة.
لكنّ هذا المعنى ليس بمراد كما ذكر الشيخ، إذ مفاد الخبر أنه ليس له أن يبيع الشيء قبل أنْ يشتريه، وأنّ الكلام الواقع في المعاملة محلّل تارةً ومحرّم اخرى إذا وقع قبله، كما في الصحيحة: «عن رجل قال لي: اشتر هذا الثوب وهذه الدابّة وبعنيها، اُربحك فيها كذا وكذا. قال: لا بأس بذلك، اشترها ولا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها»(4).
وأورد الشّيخ على الوجه الأوّل:
أوّلاً: إن قوله: إنما يحلّل الكلام… بمثابة التعليل للجواب عن السؤال، فلو كان الوجه الأوّل هو المراد، لما كان له ارتباط بالسؤال والجواب.
وثانياً: إن انحصار المحلّل والمحرّم باللّفظ يستلزم تخصيص الأكثر، لأن الحيازة محلّلة، والمعاطاة محلّلة، وغليان العصير العنبي محرّم وذهاب ثلثيه محلّل، الهديّة والهبة و الضيافة محلّل، والسفر محلّل، والحضر محرّم، فالمحلّلات والمحرِّمات غير اللّفظيّة كثيرة في الشريعة.
وكلامه متين جدّاً.
والثاني: أنْ يكون المعنى: إن الكلام بماله من المضمون، أي المضمون الذي يؤدّى بالكلام، إن كان على الموازين الشرعيّة، كان محلّلاً، وإلاّ كان محرّماً، نظير الخبر في المزارعة عن أبي عبداللّه عليه السّلام: «أنه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر، فيشترط عليه ثلثاً للبذر وثلثاً للبقر.
فقال: لا ينبغي أنْ يسمّي بذراً ولا بقراً، ولكنْ يقول لصاحب الأرض: أزرع في أرضك ولك منها كذا وكذا، نصف أو ثلث أو ما كان من شرط، ولا يسمّي بذراً ولا بقراً، فإنما يحرّم الكلام»(5).
أي: فإذا كان مضمون المزارعة هو المشاركة في الزرع بأنْ يكون لكلٍّ منهما نصيب، كان الكلام محلّلاً، وإن لم يكن كذلك فالكلام محرّم.
وفيه ـ كما ذكر الشيخ ـ أن المورد ليس من المقصود الواحد الذي يُنشأ بمضمونين، بل الذي وقع السؤال والجواب عنه هو المعاملة مع من ليس بمالك للشيء، بل عليه أنْ يشتريه ويبيعه بربح. فهذا المعنى لا مناسبة له بالخبر أصلاً.
والثالث: أنْ يكون الكلام الواحد محلّلاً إن وقع في محلّه، كما في العقد على المرأة الخليّة، ومحرّماً إن وقع في غير محلّه، كما في العقد على المرأة المعتدّة. أو يكون وجوده محلّلاً، كما لو أذن في التصرّف، وعدمه محرّماً، كما لو لم يأذن بذلك.
وفي الوافي(6): المراد من الكلام إيجاب البيع، فلمّا لم يكن عنده الشيء، كان إيجابه محرّماً وعدم إيجابه محلّلاً.
وقد اختار الشيخ هذا المعنى على وجه الوجود والعدم.
وفيه: أن القضيّة الحقيقيّة عبارة عن أخذ الكلّي الطبيعي في الموضوع بإضافة الأمر الوجودي، وليس عندنا قضيّة حقيقيّة اُخذ في موضوعها الأعمّ من الوجود والعدم، على أنّ المحمول الثبوتي يترتّب على موضوع له وجود، وإذ لا يعقل أنْ يكون المعدوم طرفاً للإسناد، لأن النسبة سنخ من الوجود يتقوّم بطرفين ثبوتيين، فإسناد «يحلّل» و«يحرّم» ـ وهما أمران ثبوتيّان ـ إلى «الكلام»، إنما هو إسناد إليه بماله من الوجود، فتارةً يؤثّر في الحلّية، واُخرى في الحرمة، ولا يعقل أن يكون المراد من الكلام هنا الأعمّ من الموجود والمعدوم.
وأمّا الوجه الأوّل من المعنى الثالث، ففيه أيضاً: إنه ليس الأمر في الغالب كذلك، لأنّ الكلام لا يكون سبباً للحرمة أو الحلّية بل كلّ منهما بسببه، فإنْ لم يكن سبب الحلّية جامعاً لشرائط التأثير ومنها كون الكلام في محلّه، أو وجد المانع عنه، فهو غير حاصل، وكان عدم حصوله هو السبب لعدم الحلّية، لا أن الحرمة مسندة إلى الكلام في غير محلّه، نعم قد يكون كذلك نادراً، كما في عقد الزواج، فإنه بالنسبة للخليّة محلّل، وللمعتدّة أو ذات البعل أو التي في حال الإحرام محرّم.
وتلخّص: عدم تماميّة الوجه الثالث.
وقد وافق شيخنا الميرزا على هذا المعنى، لكن ببيان آخر(7) هو: إنّ الكلام اذا استجمع شرائط التحليل يحلّل، وإذا لم يستجمعها أو اقترن بشيء من الموانع يحرّم.
ويمكن تأييده بأنه: إذا لم يستجمع الشرائط أو لم تفقد الموانع، لم يكن المحرّم هو الكلام، مثلاً: في بيع ما ليس عنده، ليس إيجاب البيع محرّماً، بل الواقع عدم الحلّية لعدم سببها، لا أن الحاصل بالكلام هو الحرمة، إلاّ أنه لمّا كان ارتفاع التحريم موقوفاً على وجود سبب الحلّية ـ وهو اللّفظ المستجمع ـ فإنّه إذا عدم سببها اُسندت الحرمة إليه، كما تقدّم.
وكيف كان، فالمعنى الثالث أيضاً لا يمكن المساعدة عليه.
والرابع: أن يراد من الكلام المحلّل خصوص المقاولة والمواعدة، ومن الكلام المحرّم إيجاب البيع وإيقاعه.
لكن فيه: إنه عند المقاولة لا يوجد الكلام المعاملي حتى يقال بأنّ الكلام يحلّل.
وتلخص:
إن الشيخ قدّس سرّه قد ذكر للخبر أربعة وجوه.
فعلى الأوّل: هناك كلامان ومدلولان. وحاصله: أن للّفظ موضوعيّة في التحليل والتحريم.
وعلى الثاني: هما كلامان والموضوعيّة للمضمون، فالمضمون الكذائي محلّل والكذائي محرّم، وإن كان المقصود في كليهما واحداً.
وعلى الثالث: هما كلام واحد بما له من المعنى، لكنّ الاختلاف هو من حيث الوجود والعدم تارةً، ومن حيث وقوعه في محلّه وعدم وقوعه في محلّه اخرى.
وعلى الرابع: هما كلام واحد، لكنّ السنخ مختلف بأنه إنْ كان كان مقاولةً فمحّلل و إنْ كان معاملة فمحرّم.
وقد ظهر، أن لا شيء من الوجوه صحيح.
وذكر المحقق الخراساني وجهاً خامساً(8)، واختاره شيخنا الاستاذ(9)ونسبه إلى صاحب الجواهر(10) وهو:
إنّ الكلام يحلّل ويحرّم بالإضافة إلى الشخصين وإلى المالين، فإذا أوجب البيع، فالمبيع حلال للمشتري وحرام للبائع، والثمن بعد البيع حلال للبائع وحرام للمشتري.
وهذا مبنيٌّ على أن تكون الحلّية والحرمة تكليفيين.
وهناك وجه سادس، وهو جعل الحليّة والحرمة وضعيين. وتوضيحه: إنّ القول أعمّ من الكلام، لأن الكلام هو القول المتضمّن للبتّ والجزم، وهو تارةً: موجب للصّحة، واخرى: موجب للفساد، فالصّحة والفساد مستندان إلى الأمر المنشأ بالكلام.
وحينئذ، فمعنى الخبر أحد المعنيين الأخيرين، بأنْ يكون المقصود هو السؤال عن حكم القضيّة، فيقول الإمام عليه السّلام: إن كان قوله لا يوجب سلب الاختيار عنه ـ بأنْ يكون أنْ شاء أخذ وإنْ شاء ترك ـ فلا بأس، إنما يحلّل الكلام بالنسبة إلى ما انتقل إليه ويحرّم بالنسبة إلى ما انتقل عنه، فالمدار في الحلّية والحرمة على إيجاب البيع وهو غير متحقّق الآن، ولذا قال عليه السّلام: لا بأس.
وهذا هو المعنى الأوّل منهما، ولا بأس به، إلاّ أن فيه كلفة التقدير، بأنْ تجعل الحليّة، مضافةً إلى ما انتقل إليه والحرمة إلى ما انتقل عنه.
فالأوجه هو الثاني من هذين الوجهين، يقول عليه السّلام: أليس إنْ شاء أخذ وإنْ شاء ترك، أي أن اختياره محفوظ، وحفظ الاختيار كاشف عن عدم تحقّق الكلام البتّي الجزمي، وهو الموجب للصّحة إن كان واجداً للشرائط، والفساد إنْ لم يكن كذلك.
وعلى الجملة، فإن مقتضى القاعدة مطابقة الجواب للسؤال، وقد كان السؤال عن حكم المعاملة، مع من ليس عنده الثوب فعلاً، بأنْ يشتريه له ويربحه فيه كذا وكذا.
فأجاب الإمام عليه السّلام: بأنه إنْ قصد من «إشتر لي» إيجاب البيع معه بالقطع على الثوب الذي ليس عنده، فهذا باطل، وإنْ قصد من ذلك الطلب منه، بأنْ يشتري الثوب فيبيعه منه لا من غيره في مقابل ربح معيّن، فلا بأس، والمهمّ هو أنّ الآمر بالاشتراء مختار، إن شاء أخذ وإنْ شاء ترك، لأنه يطلب من الرجل أن يشتري لنفسه ثم يبيعه منه، وهذا لا مانع منه، وإلاّ، فقد أوقع المعاملة على القطع والبتّ على شيء غير موجود عند البائع، وهذا غير صحيح.
فالقول المتضمّن للبتّ والجزم ـ وهو معنى «الكلام» لغةً ـ في هكذا مورد مبطل، وإلاّ فلا بأس.
هذا معنى الخبر، والظاهر تعدّد الكلام لا وحدته، إلاّ بناءً على ما ذكره ابن هشام في المغني(11)، من أنه إذا أعيدت المعرفة، فالمراد شيء واحد، وإذا اُعيدت النكرة، فالمعنى متعدّد، ومثال ذلك قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).
فإنه بالنظر إليه يتوجّه ما ذكرناه، وهو: إنّ القول على وجه الإبرام والجزم، قد يكون محلّلاً وقد يكون محرّماً، فالكلام في المزارعة إذا قيل: لصاحب الأرض كذا وللزارع كذا، محلّل، وكذلك إن قال: بعت، كان محلّلاً، وإنْ قال: فسخت، كان محرّماً.
فهما سنخان من الكلام، أحدهما محلّل والآخر محرّم.
هذا، والخبر ـ على كلّ حال ـ أجنبيّ عن بحث المعاطاة مطلقاً بعد سقوط المعنى الأوّل من المعاني التي ذكرها الشيخ.
قوله:
نعم، يمكن استظهار اعتبار الكلام في إيجاب البيع بوجه آخر… بأن يقال… .
أقول:
أوّلاً: إن هذا مبنيّ على المعنيين الثالث والرّابع من المعاني الأربعة، وأمّا بالنظر إلى غيرهما، كالذي ذهب إليه المحقق الخراساني أو الذي اخترناه، فلا يتمّ.
وثانياً: إن هذا الحصر إضافي، فلا يستظهر منه الذي ذكره، نعم، لو كان حصراً مطلقاً لأمكن.
قوله:
إلاّ أن يقال: إن وجه انحصار إيجاب البيع… فتأمّل.
أقول:
يمكن أن يكون إشارةً إلى ما سيذكره في التنبيه الثاني من التنبيهات ـ من أنه يتحقّق المعاطاة بإعطاء الثمن من المشتري وأخذه من البائع، فإنّ أخذ الثمن بيعٌ للمثمن ـ وحينئذ، لا تكون الرواية أجنبيّة عن المعاطاة، هذا أوّلاً.
وثانياً: من أين نستكشف كون الشيء بيد هذا الشخص ملك أوْ لا، فلعلّه كان بيده، لكنْ لا ملكاً له بل أمانةً وضعها المالك عنده، فيشتريه منه لنفسه ثم يبيعه للرجل الذي طلب منه ذلك.

(1) تهذيب الأحكام 7 / 50، الرقم: 216.
(2) الكافي 5 / 201، الرقم: 6.
(3) وسائل الشيعة 18 / 50، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الرقم: 4.
(4) وسائل الشيعة 18 / 52، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الرقم: 13.
(5) وسائل الشيعة 19 / 43، الباب 8 من أبواب كتاب المزارعة والمساقاة، الرقم: 10.
(6) الوافي 18 / 693.
(7) المكاسب والبيع 1 / 190.
(8) حاشية المكاسب: 15.
(9) حاشية المكاسب: 149.
(10) جواهر الكلام 22 / 217.
(11) مغني اللبيب 2 / 656، الباب السادس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *