الاستدلال بالآية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)

الاستدلال بالآية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
قوله:
وقد يستدلّ أيضاً بعموم قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بناءً على أنّ العقد هو مطلق العهد كما في صحيحة عبد اللّه بن سنان، أو العهد المشدّد كما عن بعض أهل اللغة. وكيف كان، فلا يختصُّ باللّفظ، فيشمل المعاطاة.
أقول:
في تفسير الصافي(1) عن القمي رحمه اللّه عن الصّادق عليه السّلام: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي: بالعهود.
ونقل الشيخ عن بعض أهل اللّغة أنّ العقد هو العهد المشدّد(2).
وفي المفردات: العقد: الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل ذلك في الأجسام الصّلبة، كعقد الحبل وعقد البناء، ثم يستعار ذلك للمعاني، نحو عقد البيع والعهد وغيرهما…(3).
وعلى الجملة، فإن العقد هو العهد المرتبط والمشدود بعهد آخر، ولا منافاة بين ذلك المذكور في الكتب اللّغويّة وما جاء في النصّ الصحيح.
وممّا يشهد بذلك إسناد «الوفاء» بالعهد في موارد كثيرة من القرآن الكريم، قال تعالى: (أَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)(4) و(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ)(5) و(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى)(6) و(الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا)(7)إلى غير ذلك.
فهل المعاطاة عقد؟ وما المراد من الوفاء؟ وهل هذا الأمر إرشادي أو مولوي؟ وعلى الثاني وضعي أو تكليفي؟
قيل: العقد ـ وهو عبارة عن العهد المشدّد أو الميثاق المبرم ـ يعتبر أن يكون باللّفظ، والمعاطاة لا تسمّى عقداً.
ولكنّ كلاًّ من اللّفظ والفعل يصلح لأنْ يكون مظهراً للميثاق الذي تقرّره النفس الناطقة الإنسانية، والمفروض هو المعاطاة الحاصلة بقصد التمليك، فكلّ من الطرفين يقرّر أن يكون ماله للآخر، أو فقل: البائع يقرّر بالمعاطاة أن يكون ملكه للمشتري بعوض، وذاك يقبل بأخذه الشيء ويدفع العوض وفاءً.
وعلى الجملة، فإنّ العقد بالمعنى المذكور في الرواية واللّغة، صادق على المعاطاة.
وأمّا الوفاء، فهو عبارة عن ترتيب أثر المقتضي على طبق اقتضائه على وجه الكمال والتمام، في مقابل النقض أو النقص.
وربما يتوهّم: أن المقتضى ـ وهو التمليك والتملّك ـ أثره هو التسليم والتسلّم، فيكون «أوْفوا» أمراً بتسليم ما ملّكه.
لكنه يندفع: بأن الأمر بالوفاء في الآية مطلق، وإطلاقه يعمّ جميع الآثار، ومنها التسليم والتسلّم، فمن ملّك غيره شيئاً وجب عليه تسليمه ما ملّكه، لكنَّ عدم التصرّف في مال الغير وتوقّفه على الإذن من الآثار كذلك، فالآية غير ظاهرة في خصوص التسليم والتسلّم.
وربما يتوهّم أيضاً: أن إيجاب الوفاء بالعقد يدور مدار ثبوت العقد ووجوده، والرجوع والفسخ يحلّ العقد فلا يبقى موضوع للوفاء، فالآية غير دالّة على لزوم العقد.
والظاهر: أن هذا التوهّم قد نشأ من أخذ العقد في الآية بالمعنى الاسم مصدري، لكنه بالمعنى المصدري، لأن الإنسان يملّك الشيء عند ما ينشيء العقد لفظاً أو فعلاً، وقولنا: هذا العقد باق، اعتبار. والبقاء الاعتباري غير العقد الذي وجد في الخارج.
فمعنى الآية المباركة: إن العقد الذي حققتموه في الخارج يجب عليكم الوفاء به، وليس معناها أن الأمر الاعتباري الذي جعل له البقاء اعتباراً يجب الوفاء به، حتى يقال بارتفاعه بالرجوع أو الفسخ. وبالجملة، فإنّ ارتفاع الموضوع بما ذكر إنما يتمّ لو كان المراد من العقد في الآية هو المعنى الاعتباري الاسم مصدري الذي يعتبر له البقاء، وقد عرفت أن المراد منها ليس إلاّ المعنى المصدري، وحينئذ، يكون الشيء للطّرف ولا يجوز المعارضة معه بوجه، والرجوع نقضٌ للعهد ومخالف للوفاء، فهو منهيٌ عنه.
وأمّا أن الأمر فيها إرشادي أو مولوي؟ فقد كان للميرزا الاستاذ رحمه اللّه قاعدة كليّة في أنّ الأوامر المتعلّقة بالعبادات لها ظهور ثانوي في الجزئيّة والشرطيّة، فقوله: إركع، إرشاد إلى أن الركوع جزء من الصّلاة، وقوله: توضّأللصّلاة، إرشادٌ إلى شرطيّته لها، وكذا الكلام في النواهي، فقوله: لا تصلّ في الحرير، لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه، إرشاد إلى المانعيّة.
وأمّا في المعاملات، فالأمر والنهي بيان لاعتبار وجود خصوصيّة أو عدم وجودها، فإذا قال: لا تغرّ في البيع، كان المعنى: أن الغرر مفسد للبيع، وإذا قال: بع بالكيل، كان المعنى: إن الكيل شرط.
وعليه، فالآية المباركة إرشادٌ إلى صحّة العقود وأنها مؤثرة شرعاً، وعليه، فلا دلالة لها على اللّزوم.
لكنّ الإنصاف عدم إمكان المساعدة على ما ذكره بنحو الإطلاق، وقد كنّا نخالفه في الدرس ونقول: بأنّ رفع اليد عن ظاهر الكلام في المولويّة لا يكون إلاّ بالقرينة، فلولا القرينة على الإرشادية، فإن مقتضى القاعدة إبقاؤه على الظهور الأوّلي في البعث والزجر.
وقد أوجب الشّارع بالآية المباركة ترتيب الأثر على العقد ترتيباً كاملاً، وهو يدلّ بالالتزام على الصحّة، إذْ لا يعقل أنْ يكون الشيء الفاسد يجب الوفاء به وترتيب الأثر عليه، وإذا دلّت الآية على الصحّة، أمكن القول بدلالتها على اللّزوم، لأنه مقتضى إطلاق الأمر بالوفاء، أي: في جميع الآثار والأزمنة والحالات، فالعقد لازم سواء فسخ أو رجع أوْ لا.
فالأمر في بدو الأمر حكم تكليفي، ويدلّ بالالتزام على الصحّة، وهو من جهة الإطلاق، يدلّ على وجوب ترتيب الآثار كلّها، وهذا معنى اللّزوم.
وكان الميرزا الاستاذ يقول: بأنّ قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بنفسه اعتبارٌ للحكم الوضعي، أي اللّزوم.
وهذا وإنْ كان جائزاً، بأنْ يكون من باب ذكر اللاّزم وإرادة الملزوم، لكنْ لا دليل عليه، بل الصّحيح ما ذكرناه.
وتلخص: أنّ الآية تدلّ على أنّ كلّ عقد شك في جوازه ولزومه، فهو لازم، وشمولها للمعاطاة موقوف على صدق «العقد» عليها، وقد تقدّم بيان ذلك.
لكنَّ شيخنا الميرزا كان يقول: بأنها تدلّ على اللّزوم في العقود اللّفظيّة فحسب، ولا تشمل المعاطاة لعدم كونها عقداً، وتوضيح كلامه قدسّ سره يتمُّ ضمن اُمور:
1 ـ إن تمليك الشيء مع الالتزام بذلك بعدم نقضه هو العهد، ولولا هذا الالتزام القلبي لم يصدق عليه عنوان العقد، بل يكون مجرَّد مبادلة مال بمال، فالعقديّة منوطة بجهة الالتزام القلبي الباطني المذكور.
2 ـ والأمور الباطنة لا يترتب عليها أثر ما لم تبرز خارجاً، ولذا لا أثر للنّيات و العزائم المجرّدة.
3 ـ والدلالة الالتزاميّة من أحكام الألفاظ، وأمّا الأفعال فلا دلالة لها.
وعلى ما ذكر، فلو أنشأ مبادلة مال بمال باللّفظ، دلّ بالالتزام على الأمر الباطني المزبور، ولذا يسمّى بالعقد، وأمّا لو أنشأ ذلك بالفعل الخارجي، فقد حقّق المبادلة، لكنّ الدلالة الالتزاميّة غير موجودة، فلا تسمّى بالعقد وإنْ كانت تمليكاً.
لكنّ التحقيق: إن العقد عبارة عن الإرتباط بين الشيئين، وهو العهد، ولمّا كان التمليك من الأمور الإنشائيّة الناشئة من النفس الإنسانيّة الناطقة، كان عهداً من العهود، ولا حاجة معه إلى عهد والتزام زائد.
وقوله رحمه اللّه: بأنّ العقد له مدلولان: مطابقي، وهو عبارة عن مضمون العقد الذي ينشؤه العاقد كمبادلة مال بمال الذي هو البيع، والتزامي، وهو عبارة عن التعهّد والالتزام بالمضمون.
فيه: أنه إذا كانت العهديّة بلحاظ أنّ مبدء الإنشاء الصّادر هو ما في الضمير، وأنّ التمليك الذي يحقّقه إنما هو مقتضى عزمه والتزامه، فحينئذ لا فرق بين أن يكون المظهر له قولاً أو فعلاً، وسيأتي في مباحث الخيار ـ في أنه إذا شرط في ضمن العقد وتخلّف الشرط ـ : أنّ التحقيق ثبوت الخيار وعدم بطلان العقد، لأنّ التمليك الحاصل من البائع ـ مثلاً ـ يشتمل على التزام باطني بما فعله، والدليل على ذلك هو ظاهر الحال لا اللَّفظ، خلافاً للاستاذ قدّس سرّه، وشرط الخيار يرتبط بظاهر الحال، لا أنّ الملكيّة منوطة بالشرط حتى تنتفي بانتفائه ويبطل العقد، بل الالتزام منوط به، فيكون العقد على حاله مع ثبوت الخيار[1].
[1] أقول: لقد أجاد ـ طاب ثراه ـ في بيان كيفيّة الاستدلال بالآية المباركة لإثبات لزوم المعاطاة، وكلامه ناظر إلى جميع جهات البحث.
أمّا بالنسبة إلى الموضوع وهو «العقد»، فقد أفاد أنه بحسب الرّواية الصحيحة(8)وكلمات أهل اللّغة هو: «العهد» المرتبط بعهد آخر، وذكر أنّ هذا صادقٌ على المعاطاة.
وتوضيح المطلب هو: أنّ «العقد» مقابلٌ للحلّ، قال تعالى عن لسان موسى عليه السّلام: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِساني)(9)، وأمّا العهد، فهو الالتزام والميثاق، وموارد استعماله في القرآن وغيره كثيرة، قال تعالى: (أَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ)(10) ويقابله الغدر. فهما مفهوماً متغايران، وإنْ قال ابن منظور: «المعاقدة المعاهدة»(11)، لكنّهما متصادقان كما في مورد «المعاطاة».
وذكر رحمه اللّه: إن كلاًّ من اللّفظ والفعل يصلح لأنْ يكون مظهراً للميثاق والالتزام الذي تقرّره النفس الناطقة الإنسانيّة. وفيه إشارة إلى بحث بين العلماء وخلاصته: أنه هل للإبراز والإظهار بالإنشاء دخلٌ في مفهوم الميثاق الباطني أو أنه غير متقوّم به، فظاهر كلامه هو الثاني وفاقاً لشيخه المحقق الإصفهاني(12)، خلافاً للمنقول عن بعض أهل اللّغة، من أنّه إذا ملّك داره قلباً ولم ينشئ ذلك ولم يبرزه، فلا يصدق العهد والعقد.
وأمّا بالنّسبة إلى الحكم وهو «وجوب الوفاء»، فقد أفاد رحمه اللّه مطالب:
أحدها: مفهوم المادّة، فأشار إلى أنّ مفهوم «الوفاء» عبارة عن التمام، وهذا هو المستفاد من الآيات القرآنيّة المذكورة وغيرها.
والثاني: في مدلول الهيئة، وأنّه الحكم التكليفي، خلافاً لبعض الأعلام، وتعرَّض لخلافه مع شيخه المحقّق النائيني في مسألة كبرويّة وفي تطبيقها على ما نحن فيه، وعلى الجملة، فمعنى الآية وجوب ترتيب مقتضى العقد والالتزام به عملاً، وهذا يستلزم حكماً وضعيّاً وهو لزوم العقد.
وقد أشكل بعض المحققين كالإيرواني، بأنّ الآية لا تجدي لإثبات اللّزوم عموماً، وإنما تجدي لإثباته في خصوص ما إذا كان العقد متعلّقاً بالفعل، لا في العقد على النتيجة الذي منه المقام، إذ العقد على النتيجة، إمّا أن يكون مؤثّراً في وقوع تلك النتيجة أوْ لا يكون مؤثّراً، وعلى كلّ حال، لا عمل خارجي له من العاقد حتى يخاطب بخطاب أوْفوا. (قال): وأمّا التسليم للعوضين، فذلك ليس لأجل أنه مصداق للوفاء، وإنما هو من جهة أنه بالعقد صار ملكاً للغير، فلا يجوز التصرّف فيه بغير إذنه، فالمتعاقدان والأجانب في وجوب معاملة ملكيّة من انتقل إليه المال، على حدٍّ سواء…(13).
وهذا ما أشار السيّد الجدّ إليه وأجاب عنه بقوله: فمعنى الآية المباركة: إنّ العقد الذي حققتّموه في الخارج… فهو يريد أنّ الأمر بالوفاء في الآية معناه هو: إنكم بعد التزامكم القلبي بأنْ يكون الشيء لغيركم، لا يجوز لكم أن تنظروا إليه بعنوان أنه مالٌ لكم فيجوز لكم استرجاعه والتصرّف فيه، بل يجب عليكم ترتيب الأثر على ما أوقعتموه والنظر إلى الشيء بعنوان أنه للغير، ولا يجوز التصرف فيه إلاّ بإذنه.
والمطلب الثالث: ظهور الآية في الإطلاق… وهو ما نصّ عليه بقوله: «لأنّه مقتضى إطلاق الأمر بالوفاء…» فللآية إطلاق أفرادي وأزماني، فبمجرّد تحقّق العقد يجب الالتزام والعمل بمقتضاه، حتى بالنسبة إلى ما بعد الفسخ.

(1) تفسير الصّافي 2 / 5 عن تفسير القمي 1 / 160.
(2) لسان العرب 9 / 309.
(3) المفردات في غريب القرآن: 341.
(4) سورة البقرة: 40.
(5) سورة النحل: 91.
(6) سورة آل عمران: 76.
(7) سورة البقرة: 177.
(8) تفسير الصّافي 2 / 5 عن تفسير القمي 1 / 160.
(9) سورة طه: 27.
(10) سورة البقرة: 40.
(11) لسان العرب 9 / 309.
(12) حاشية المكاسب 1 / 144.
(13) حاشية المكاسب: 81 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *