القاعدة الرابعة

القاعدة الرابعة
قوله:
ومنها: جَعل التلف السّماوي من جانب مملّكاً للجانب الآخر… .
أقول:
ما قال هنا: مع غرابة أنْ يكون التلف مملّكاً، لأنّ حصول الملكيّة بالتلف مستحيل، إذ لا معنى لها في آن التلف، وبعده لا موضوع لها.
ووجه الإشكال هو: إن التلف بيد أحدهما ليس بسبب لتملّك الآخر لما بيده، وحينئذ، يكون صاحب المال الموجود مالكاً لما بيده بلا سبب شرعي.
وقد أجاب الشيخ قدّس سرّه:
قوله:
وأمّا كون التلف مملّكاً للجانبين، فإنْ ثبت بإجماع أو سيرة ـ كما هو الظاهر ـ كان كلٌّ من المالين مضموناً بعوضه… .
أقول:
أي: إن مقتضى قاعدة على اليد أنْ يكون كلّ ما حلّ في يد أحدهما مضموناً عليه، وعليه تسليمه إلى صاحبه، فإن تلف كان عليه المثل إن كان مثلّياً، وإلاّ فالقيمة، فما في كلام بعضهم(1) من تفسير الحديث بمطلق الضّمان، سهو من القلم.
لكنّ الإجماع قائم على وجوب المثل أو القيمة في مورد المعاطاة، ومقتضى الإستصحاب عدم الملكيّة، والجمع بين قاعدة اليد والإجماع والإستصحاب يكشف عن حصول الملكيّة آناًمّا قبل التلف.
قوله:
نظير تلف المبيع قبل قبضه في يد البائع، لأنّ هذا هو مقتضى الجمع… .
أقول:
فقد ورد النصّ على أن كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه(2)، حيث أنّ ما بيد البائع ملك للمشتري، فإن تلف قبل أن يقبضه البائع إيّاه كان من مال البائع، وعليه إرجاع الثمن الذي أخذه من المشتري، مع أنّ مقتضى القاعدة أنه إن كانت يده أمانيّة فلا شيء عليه، وإن كانت عدوانيّة فالمثل أو القيمة، فمن النصّ يستكشف أن البيع ينحلُّ قبل التلف آناًمّا، ويرجع المال إلى ملك صاحبه، فالتلف في ملكه وعليه ردّ الثمن.
والحاصل: إن التلف في يد أحدهما يكشف عن حصول الملكيّة له قبله آناًمّا، وحصول الملكيّة لهذا يستلزم حصولها للطرف الآخر بالنسبة إلى ما بيده، فالتلف من أحدهما يكون مملّكاً للآخر.
قوله:
ومع حصوله في يد الغاصب أو تلفه فيها، فالقول بأنه المطالب ـ لأنّه تملّك بالغصب أو التلف في يد الغاصب ـ غريب، والقول بعدم الملك بعيد جدّاً، مع أنّ في التلف القهري، إنْ ملك التالف قبل التلف فهو عجيب، ومعه بعيد لعدم قابليّته، وبعده ملك معدوم، ومع عدم الدخول في الملك، يكون ملك الآخر بغير عوض، ونفي الملك مخالف للسّيرة وبناء المتعاطيين.
أقول:
فههنا إشكالات:
أحدها: أنه لو غصب المال من يد المتعاطي، كان له المطالبة مع أن الفرض كونه مباحاً له وليس بملك.
والثاني: إنّ له أخذ المثل أو القيمة من الغاصب في حال تلف العين عنده، مع أنّ ذلك من حقّ المالك وهو ليس بمالك.
أجاب الشيخ:
وأمّا ما ذكره من صورة غصب المأخوذ بالمعاطاة، فالظاهر على القول بالإباحة أنّ لكلّ منهما المطالبة مادام باقياً، وإذا تلف، فظاهر إطلاقهم التملك بالتلف: تلفه من مال المغصوب منه، نعم، لو قام كان تلفه من مال المالك لو لم يتلف عوضه قبله.
أقول:
توضيحه: إن المفروض كون المعاطاة مفيدةً للإباحة، فالمال الذي بيد المتعاطي ملك الغير، فإذا تلف بالتلف السّماوي كان مقتضى قاعدة اليد دفع المثل أو القيمة، لكنّ الإجماع قام على عدم الضمان مطلقاً، فإمّا يخصَّص به عموم القاعدة، بأنْ يكون المعنى: إلاّ التالف بيد الآخذ بالمعاطاة، وإمّا أنْ يكون المورد خارجاً بالتخصّص، بأنْ يكون الإجماع كاشفاً عن حصول الملكيّة آناًمّا قبل التلف، فالمال تالف في ملكه وهو خارج موضوعاً عن القاعدة، فيكون أمر الإجماع دائراً بين التخصيص والتخصّص، وقد تقرّر تقدُّم التّخصّص، فهو نظير ما تقدّم من أنّ كلّ مبيع تلف قبل القبض فهو من مال بائعه.
ووجه الالتزام بالملكيّة آناًمّا ـ لا الملكيّة على إطلاقها ـ هو الجمع بين ما ذكر والاستصحاب، المقتضي بقاء المالين في ملك صاحبيهما. وقد كان يلزم ضمّ أمر آخر، وهو: إنّه لمّا كان تلف المال واقعاً في ملك من كان بيده، فإنّ هناك ملازمةً بين مالكيّة هذا ومالكيّة الطرف لما بيده، فيكون مالكاً للمال الموجود عنده.
أقول:
أمّا التنظير، ففيه: إن النصّ يدلّ بالمطابقة على حصول اعتبار كون التالف من مال البائع حقيقةً، فكأن لزوم البيع كان منوطاً بعدم التلف، فإذا تلف كان منحلاًّ.
وأمّا أصل المطلب، ففيه: إنه لا مجال للتمسّك هنا بقاعدة اليد، لأن لفظ الخبر أنّ على اليد «ما أخذت» لا «ما اعطيت» كما نحن فيه، فلو اُعطى شخص ماله غير الذهب والفضّة لآخر عاريةً وحصل فيه تلف قهري، فلا ضمان، لأن مدلول الحديث ثبوته فيما لو أخذت اليد مال الغير بدون إذنه، ومانحن فيه ليس كذلك، لأن المفروض حصول المعاطاة. وبالجملة، لا مجرى هنا للقاعدة أصلاً، ولا نعلم للتمسّك بها وجهاً. هذا أوّلاً.
وثانياً: لو سلّمنا جريان القاعدة، فما أفاده الأكابر ـ ومنهم بعض الأساتيد(3) ـ من أن مقتضى التمسّك بعموم «على اليد» وهو من الأمارات، ثبوت لازمه وهو التخصّص والخروج الموضوعي، فيه: إنّ الدليل اللّفظي إنّما يثبت لازمه في ثلاثة موارد فقط، وهي:
1 ـ أن يكون بين اللاّزم وملزومه علّية، لكون الحجّة على اللاّزم حجّة على الملزوم وبالعكس.
2 ـ أن يكونا ضدّين لا ثالث لهما، فالحجة القائمة على أحدهما حجّة على عدم الآخر.
3 ـ أن يكونا معلولين لعلّة واحدة، ومرجعه إلى الأوّل، والسرّ واضح، لأن الحجة على أحد المعلولين حجّة على العلّة، والحجّة على العلّة حجّة على المعلول الآخر.
وفي دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص، كما لو قال: أكرم العلماء ثم قال: إضرب زيداً، ودار أمره بين العالم والجاهل، لم يجز التمسّك بالعام، لتكون النتيجة وجوب ضرب زيد الجاهل، لعدم وجود الملاك الذي ذكرناه، وأنه لا يعقل الإثبات في غير الموارد الثلاثة.
وإذنْ، لا وجه لإثبات الملكيّة آناًمّا قبل التلف، على ما ذكره الشيخ وتبعه عليه غيره.
هذا كلّه في الإشكال الأوّل.
والإشكال الثاني هو: إن للمتعاطي أنْ يأخذ المثل أو القيمة من الغاصب في حال تلف العين عنده، مع أنّ ذلك من حقّ المالك وهو ليس بمالك.
أجاب الشيخ:
بأنّ للمالك أن يطالب لكونه مالكاً، وللمتعاطي أنْ يطالب لكونه مباحاً له.
وهذا الجواب وجيه، فما نحن فيه نظير مطالبة الآخذ عاريةً، حيث أن لكلٍّ من المالك والآخذ حق المطالبة، هذا فيما إذا كانت العين موجودةً بيد الغاصب، ومع تلفها فإطلاق كلامهم بأنّ التلف يوجب الملكيّة شامل لما نحن فيه، فيكون للمتعاطي المطالبة بالمثل أو القيمة لكونه المالك حينئذ.
والإشكال الثالث هو: إنه إذا كان التلف سبباً للملكيّة، فمتى تكون هذه السببيّة؟
إن كان حصول الملكيّة متقدّماً على التلف الحاصل بعدها، لزم تأخّر العلّة عن المعلول.
وإنْ كان حصولها مقارناً للتلف، لزم عروض الملكيّة على المحلّ في آن انعدامه.
وإنْ كان حصولها بعد التلف، لزم تعلّق الملك بالمعدوم.
والجواب ـ على مسلك الشيخ ـ إن التلف كاشف عن الملكيّة المتقدّمة، ولا مانع من تأخّر الكاشف عن المنكشف. واللّه العالم.
قوله:
فالقول الثاني لا يخلو عن قوّة.
أقول:
كأنه قد تردّد بين المشكل والأشكل، فمقتضى أصالة عدم الملكيّة بسبب المعاطاة، والشهرة القائمة، عدم إفادتها ذلك، ورفع اليد عن الشهرة والأصل مشكل. لكن عموم آية الحلّ والتجارة يقتضيان إفادة المعاطاة الملكيّة، ورفع اليد عنه أشكل.
فقال: لا يخلو الثاني عن قوّة.
أقول: بل هو الأقوى، لأن الأصل لا يقاوم الأمارة، ولأنّ الشهرة الفتوائيّة ليست بحجّة.

(1) حاشية الإصفهاني 1 / 125.
(2) عوالي اللآلي 3 / 212، باب التجارة، الرقم 69.
(3) حاشية المكاسب للإصفهاني 1 / 124.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *