الأقوال الاخرى في حقيقة الحق

الأقوال الاخرى في حقيقة الحق
ويبقى الكلام في الأقوال الأخرى في حقيقة الحق:
فالميرزا الأستاذ قدّس سرّه كان يقول: بأنّ الحق مرتبة من الملك(1).
والشيخ الأستاذ قدّس سرّه كان يقول: بأنّ الحق هو الثبوت بالمعنى المصدري والثابت بالمعنى الإسم مصدري(2).
والمحقق الخراساني رحمه اللّه أراح نفسه فقال: الحق اعتبار خاص له آثار مخصوصة منها السّلطنة(3).
والسيّد اليزدي طاب ثراه ـ والظاهر أنّه المشهور ـ على أنّ الحق هو السّلطنة(4).
أقول:
قد عرفت أنّ المتبادر من الحق في جميع موارد استعماله أنّه متّخذ من القابليّة والأهليّة والجدارة، فيحقّ له أن يفعل كذا بمعنى: أنه أهل لأن يفعل كذا. وهذا هو المعنى في غيره من الشّواهد التي ذكرناها سابقاً.
وهو يستعمل أيضاً بحسب اللّغة فيما له الواقعيّة والثبوت، لكنْ لا مطلقاً، بل بخصوصيّة أنّ هذا له واقعيّة في مقابل الباطل إذْ لا واقعية له، ومن هذا الباب: قولنا: اللّه حق، الإسلام حق، القرآن حق… فلا ريب في أنّه يستعمل في الثابت، بالخصوصيّة المذكورة.
إنّما الكلام في الحق بالمعنى الإسم المصدري، الذي له خصوصيّة الاعتبار الوضعي، فهو محلّ الكلام، لا الثبوت الذي ذكره الشيخ الأستاذ طاب ثراه، مضافاً إلى أنّا نقول: ثبت الحق، فلو كان الحق بمعنى الثبوت، لزم إسناد الشيء إلى نفسه، ونقول: ثبوت الحق، والشيء لا يضاف إلى نفسه.
وأمّا ما ذهب إليه الميرزا الاستاذ قدّس سرّه، فلا يمكن المساعدة عليه، لوجوه:
الأول: إن الملكيّة أمر اعتباري، وهو لا مراتب له، إذ المراتب مخصوصة بالمقولات، لا كلّها بل بعضها.
والثاني: إنّ الحق والملكيّة متقابلان، فيقال: فلان ذو حق، وفلان ذو ملك.
والثالث: هناك موارد يوجد فيها الحق ولا تتصوّر الملكيّة، فمثلاً: حق الاختصاص متحقّق لمن اتخذ الخمر للتخليل، وكذا في حق التحجير… فهنا حق ولا ملك.
ورابعاً: إنّه لا معنى لأنْ يعتبر الملكيّة ـ ولو مرتبةً منها ـ لِما هو تحت السّلطنة تكويناً، كما سيجيء في قول المشهور.
وأمّا أنه السّلطنة ـ كما هو المشهور ـ ، فإنْ أريد السّلطنة التكوينيّة، فعندنا موارد فيها الحق ولا سلطنة، كما في المولّى عليه، وموارد بالعكس، كما هو الحال بالنسبة إلى الولي. فبين السلطنة والحق عموم من وجه.
وأيضاً: الحق يضاف إلى ذي الحق فيقال: له حق الشفعة، ولا يعقل أن يكون للإنسان سلطنة اعتباريّة على أعمال نفسه، وقد بيّنا أنّ قولهم: الحرّ مسلّط على أعماله وأفعاله، غير صحيح.
وإنْ أريد السّلطنة الاعتباريّة، انتقض بموارد الإضافة إلى فعل ذي الحق وعمله، فإنّها سلطنة تكوينيّة، وإذ يوجد السّلطنة التكوينيّة، فلا يعقل اعتبار السّلطنة.
هذا تمام الكلام في الحقوق وما يتعلّق بها[1].
[1] أقول: لقد بحث طاب ثراه عن الحقّ وما يقبل النقل والإسقاط وما لا يقبل، وتعرّض للأصل المحكّم فيما لو شك، وذكر الأقوال في الحقّ واختار أنه «الجدارة» وانتقد الأقوال الأخرى، وأشار إلى الفرق بينه وبين الملك والحكم.
ونحن نشرح بعض الأمور ونضيف بعض الفوائد:
1 ـ لقد أشار إلى الفرق بين «الحق» و«الملك»، وسيأتي الكلام عن حقيقة الملكيّة، وأمّا بين «الحكم» و«الحقّ» فلم يتّضح لنا رأيه، لأنه قسّم الحكم إلى التكليفي والوضعي، وهو ما لا يقبل النقل والإسقاط كما هو معلوم، لكنّه قرّر أنّ من الحقوق ما لا يقبل الإسقاط والنقل كذلك، فما هو الفرق بينهما؟
وأفاد سيدنا الأستاذ قدّس سرّه: أنّ تشخيص الحكم عن الحق والتفريق بينهما مشكل، لأنّ بعض الحقّ لا يقبل الإسقاط كالحكم(5).
وقد أصرّ المحقق الخوئي على عدم الفرق بين «الحق» و«الحكم» بل قال: «لا ينبغي الريب في أن الحكم والحق متّحدان حقيقةً، لأنّ قوامهما بالاعتبار الصرف» قال: «لا وجه لتقسيم المجعول الشّرعي أو العقلائي إلى الحق والحكم، لكي نحتاج إلى بيان الفارق بينهما، بل كلّها حكم شرعي أو عقلائي قد اعتبر لمصالح خاصّة… نعم، تختلف هذه الأحكام في الأثر…»(6).
وقد استدلّ لذلك بوجوه:
الأوّل: كونهما اعتباريين.
والثاني: إن لفظ الحق بمعنى الثبوت.
والثالث: إن الحكم والحق يتعلّقان بالأفعال فقط، بخلاف الملك.
وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل، ففيه: إن الملك أيضاً اعتباري، وقد قلتم أنهما غير الملك.
وأمّا الثاني، ففيه: إنه يصحّ القول: ثبت الحق، فلو كان الحقّ بمعنى الثبوت لكان الكلام ثبت الثبوت، وهو غير صحيح.
وأمّا الثالث، ففيه: إنّ الحق قد يتعلَّق بالعين أيضاً، مثل حق التحجير. قاله شيخنا دام بقاه.
لكنْ يمكن الجواب: بأنّ هذا إنما يقال في مقام الإضافة، وهو في الحقيقة من التعلُّق بالفعل، فمتعلّق الحق هو الفعل الذي يقع على الأرض.
هذا بالنسبة إلى الفرق بين الحكم والحق.
2 ـ وفي الأقوال، تعرّض سيّدنا الجدّ طاب ثراه لأقوال الأساطين في حقيقة الحقّ، وتكلّم عليها، إلاّ أنّه لم يوضّح كلمة الشيخ قدّس سرّه إذ قال: «إنّ هذا الحق سلطنة فعليّة…» فما معنى «فعليّة»؟
قال شيخنا دام بقاه: إنّ كلام الشيخ يفيد أنّ السّلطنة منها فعليّة ومنها غير فعليّة، ومراده من الفعليّة ـ كما ذكر في قاعدة: من ملك شيئاً ملك الإقرار به ـ القدرة على التصرّف، ومن غير الفعليّة الاعتباريّة. وعليه، فإن سلطنة المحجور عليه اعتباريّة لا فعليّة، أمّا غير المحجور عليه، فسلطنته فعليّة، واللاّم في «الحق» تحتمل الجنس والعهد، بأنْ يراد حق الخيار وحقّ الشفعة.
وتعرّض طاب ثراه لرأي المحقّق النائيني رحمه اللّه في الدورة الثانية وناقشه بوجوه، ولكنّ عبارته في الدورة الأولى تختلف عنها، فإنه قال: «إنه عبارة عن إضافة ضعيفة حاصلة لذي الحق، وأقواها إضافة مالكيّة العين، وأوسطها إضافة مالكيّة المنفعة. وبتعبير آخر: الحق سلطنة ضعيفة على المال، والسّلطنة على المنفعة أقوى منها، والأقوى منهما السّلطنة على العين فالجامع بين الملك والحق هو: الإضافة الحاصلة من جعل المالك الحقيقي لذي الإضافة المعبّر عنها بالواجديّة، وكون زمام أمر الشيء بيد من جعل له و كونه ذا سلطنة وقدرة، وهذه الإضافة لو كانت من حيث نفسها ومن حيث متعلَّقها تامّة، بأنْ تكون قابلةً لأنحاء التقلّبات، فتسمّى ملكاً، ولو كانت ضعيفةً، إمّا لقصور الإضافة كحقّ المرتهن بالنسبة إلى العين المرهونة، وإمّا لقصور في متعلّقه كحقّ التحجير… فتسمّى حقّاً…»(7).
لكنْ يشكل عليه كذلك، لأنّه جعل الإضافة ذات مراتب، ثم جعل اختلاف مرتبة الإضافة على أثر اختلاف المتعلَّق، على أنّ بين جعل الحق «إضافة» و«سلطنة» تهافتاً واضحاً… وهذا كلّه، بالإضافة إلى تهافت كلامه في الدورتين.
3 ـ ملخّص ما أفاده السيّد الجدّ طاب ثراه في ضابطة السقوط والنقل وعدمهما، أمّا في مقام الثبوت: كون نسبة العنوان الذي أخذ موضوعاً بالنسبة إلى الحق، نسبة العلّة التامّة إلى المعلول أو نسبة المقتضي إلى المقتضى، فإنْ كانت من القبيل الأوّل فالعدم، وإن كانت من القبيل فالجواز.
وأمّا في مقام الاثبات: فلابدّ من ملاحظة دليل كلّ حق وما يحتفّ به من القرائن من الوجوه والمصالح والمناسبات بين الأحكام والموضوعات، فلذا لا يعقل شيء من الإسقاط والنقل والانتقال في بعضها، ويعقل السّقوط دون غيره في البعض الآخر، ويعقل النقل دون الانتقال في ثالث، ويعقل النقل والإنتقال معاً في رابع، ويعقل الانتقال دون النقل في خامس. ومع الشك في أنّه حقٌ فيقبل السقوط والنقل أو حكم فلا يقبل؟ استصحب البقاء، لأنّ الحق جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة الكليّة.
ومع الشكّ في أنّ حقاً من الحقوق يقبل ذلك أوْ لا؟
ذكر بعض الأكابر: أنّ لكلّ ذي حق إسقاط حقّه. فأجيب: بأنه لا دليل عليه(8)، وإن وصفه الشيخ بالقاعدة المسلّمة(9).
واستدلّ للسّقوط والنقل بعموم قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(10). فأجيب: بأنه من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة.
واستدلّ بعمومات أدلّة البيع والصّلح(11). فأجيب: بأنّه من التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقيّة.
فالأصل: عدم القبول للنقل والإسقاط. واللّه العالم.

(1) المكاسب والبيع 1 / 92.
(2) حاشية المكاسب 1 / 18.
(3) حاشية المكاسب: 4.
(4) حاشية المكاسب 1 / 280.
(5) بلغة الطالب في التعليق على بيع المكاسب: 25.
(6) مصباح الفقاهة 2 / 44.
(7) منية الطالب 1 / 41.
(8) حاشية المكاسب للمحقق الإصفهاني 1 / 51.
(9) كتاب المكاسب: 221 مسقطات خيار المجلس ط الشهيدي.
(10) سورة المائدة: 1.
(11) سورة البقرة: 275، سورة النساء: 128.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *