كلام الباقلاّني في أفضليّة أبي بكر

ونحن نشرح المسألة بشيء من التفصيل، فنقول:
قال الباقلاّني:
«فإن قال قائل: وما الدليل على أن أبا بكر كان بصفة ما ذكرتم من صلاحه لإمامة المسلمين واجتماع خلال الأئمة وآلتهم فيه؟
قيل له: الدليل على ذلك سبقُه إلى الإيمان والجهاد في سبيل اللّه بماله ونفسه وإنفاقُه على الرسول مالَه، وإيناسُه له في الغار بنفسه، وتعاظم انتفاع النبي صلّى اللّه عليه وسلم بدعوة من دعاه إلى الإيمان وإسلام من أسلم باستدعائه، وبنائه مسجداً يدعو فيه إلى الإيمان وتصديق الرسول حتى قال الناس: من آمن بدعاء أبي بكر أكثر ممن آمن بالسيف; فمنهم عثمان وطلحة والزبير وغيرهم من عِلْية الصحابة رضي اللّه عنهم، وإنما أرادوا أكثر قوة ومُنَّةً لا أكثر عدداً ممن آمن بالسيف، وشراؤه المعذّبين في اللّه كبلال وعامر بن فُهَيرة، ومناضلته المشركين، وقوله لمثل سهيل بن عمرو لما جاء مصالحاً عن قريش حيث قال للنبي صلّى اللّه وسلم ما أرى حولك إلاّ من لو عضّه الحديد أو قربت الخيل لأسلمك، فقال له: «اسكت; عضِضْت ببظر اللاَّتِ! أنحن نُسْلمه؟».
وكونه مع النبيِّ صلّى اللّه عليه وسلم يوم بدر في العريش وتخصصه له مع العلم بأنه لا يركَنْ في مثل تلك الحال إلاّ إلى ذِي مُنّة ورأي وبصيرة وغناء، وقد دلّ على هذا بقوله للأعرابي حيث قال له: «إنك ضنين بصاحبك هذا، وقد استحرّ القتل في أصحابك»، فقال له: «إن اللّه أمرني أن اتخذه خليلاً أو جليساً أو أنيساً» وما هذا معناه من اللّفظ.
هذا، مع علمنا ضرورة بأنه كان معظَّماً في الجاهليّة قبل الإسلام، ومن أهل الثروة والجاه منهم، وممن تجتمع إليه العرب وتسأله عن أيام الناس والأنساب والأخبار ففارَق ذلك أجمع إلى الذلِّ والصِّغَارِ والصبر على أذية أهل الكفر، وعلمنا ضرورة بأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يعظّمه ويشاوره ويخلي له مجلساً عن يمينه لا يجلس فيه غيره.
ومما رُوي من الجهات المشهورة مما قاله عليه السلام فيه نحو قوله: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، و«إنهما من الدين بمنزلة الرأس من الجسد»، و«ما نفعني مالٌ ما نفعني مال أبي بكر»، و«إني بُعثت إلى الناس كلّهم فقالوا: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت» فسُمي لأجل ذلك صِدِّيقاً وغلب على اسمه وكنيته واسم أبيه، وإلى غير هذه الأخبار مما قد بسطنا طَرَفاً من ذكرها في غير هذا الكتاب.
وقد كان أهل الكفر يعرفون هذا من أمره ويعرفون تقدُّمَه في الجاهلية ثم في الإسلام وعند النبي صلّى اللّه عليه وسلم، ولهذا صاح أبو سفيان بأعلى صوته عند تزاحف الصفوف: «أين أبو بكر بن أبي قحافة؟ أين عمر بن الخطاب؟ يومٌ بيوم!»، في كلام طويل، ولم ينادِ بغيرهما.
ولهذا كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم يُقَدِّمُه في الشهادة عليه في عهوده وكتب صلحه ويكتب:
«شهد عبداللّه بن أبي قُحَافة وعمر بن الخطاب وفلان وفلان»; وهذا مما يُعْلمُ ضرورةً ولا يمكن دفعه.
غير أن الشيعة تزعُم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان مُمْتَحناً به وبعمر على نفاق لهما وتقية منهما، وهذه أمانيُّ دونها خرط القتاد وذهاب الأنفس حسرات، ولولا علم النبي صلّى اللّه عليه وسلم بفضل سبقه وهجرته وعلمه، لم يأتم به ولم يقدّمه عليهم في مرضه ويعظِّم الأمر في بابه ويقول: «يأبى اللّه ورسوله والمسلمون إلاّ أبا بكر»، وقوله لحفصة وعائشة: «إنكن صواحبات يوسف».
ولولا شدّة تعلّق هذا الأمر بأبي بكر وتخصصه بالفضل فيه وخشية الإثم في تقدم غيره، لم يقل: «إنكن صواحبات يوسف ويأبى اللّه والمسلمون إلاّ أبا بكر». والأمر الذي التُمِسَ منه أمر سائغ ليس بإثم في الدين، لأن فضل السن فقط وما جرى مجراه لا يوجب التحذير بهذا القول. هذا وهو عليه السلام يقول: «يَؤُمُّ الناسَ خيرُهم» و«أئمتكم شفعاؤكم إلى اللّه، فانظروا بمن تستشفعون»، ويقول: من تقدَّم على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو أفضل منه، فقد خان اللّه ورسوله والمسلمين».
وأمّا دعوى الشيعة أنه خرج فعَزَله ودفعه عن موضعه وأنكر تقديمه وأعظمه فمن جنس التُّرَهات والأماني الكاذبة، لأن مثل هذا لو كان لعلمناه ضرورةً، كما علمنا أن أبا بكر تقدم ضرورة، وإنما اخْتُلِفَ في أن أبا بكر صلّى بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم أو صلّى به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة واحدة ذُكر ذلك فيها، وصلّى بهم بقية أيام مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وروى الثّبْتُ الثقات أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «ما من نبي يموت حتى يؤمه رجل من قومه»; وأن أبا بكر أمَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهذا هو الذي عناه أبو بكر بقوله: «وليتُكم ولست بخيركم; إني وليتكم الصلاة ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حاضر»; ولعمري إنه لا يجوز أن يكون خير قوم فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلا مُعْتَبَر في هذا الأمر العظيم بتلفيق المخالفين وتمنيهم الأباطيل وتلُّقهِم بروايات تَرِد خاصة منهم ولهم لا يعلمها غيرهم.
على أنه لو يعلم جميع هذا من حاله، ولم يتقدّم له شيء مما ذكرناه من فضائله ومناقبه، لكان ما ظهر منه بعد موت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من العلم والفضل والشدة في القول والفعل وتحصيل ما ذهب على غيره، دِلالةً على اجتماع خلال الفضل والإمامة فيه، بل لو لم يدلّ على ذلك من أمره إلاّ ما ظهر منه من التثقيف والتقدّم والتشدّد وسد الخلل وقَمْعِ الرِّدَّة وأهلها في أيام نظره، لكان في ذلك مَقْنَعٌ لمن وُفِّقَ لرشده.
فأوّل ما ظهر من فضله وتسديد رأيه: إعلام الناس موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وكفُّه عمر وغيره ممن تشتتت آراؤهم في موته وفجِئَتْهم المصيبة بموته، وما كان من قوله وفعله في ذلك، وقالت عائشة وغيرها من الصحابة: «إن الناس أُفْحِمُوا ودَهشوا حيث ارتفعت الرَّنَّةُ وَسجَّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والملائكةُ بثوبه وذَهِلَ الرجال، فكانوا كأجرام انتُخِبَتْ منها الأرواح وحولهم أطواد من الملأ، فكذّب بعضهم بموته، وأُخْرِسَ بعضهم فما تكلّم إلاّ بعد الغد، وخَلَّطَ آخرون ولاثوا الكلام بغير بيان وبقي آخرون معهم عقولهم، فكان عمر ممن كذب بموته وعليّ في من أُقْعِدَ، وعثمان في من أُخْرِسَ; وخرَجَ مَن في البيت ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مُسَجىً.
وخرج عمر إلى الناس فقال عمر: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يمت، وليرجعنّه اللّه وليقطعنّ أيدياً وأرجلاً من المنافقين يتمنّون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الموت، وإنما واعد ربّه كما واعد موسى وهو آتيكم».
وأمّا عليّ، فإنه قَعَدَ فلم يبرح من البيت.
وأمّا عثمان، فجعل لا يكلّم أحداً، يؤخذ بيده فيذهب ويُجاءُ به.
حتى جاء الخبر أبا بكر وتواتر أهل البيت إليه بالرسل، فلقيه أحدهم بعد ما مات صلّى اللّه عليه وسلم وعيناه تهْمُلانِ وغُصَصُه ترتفع كقِطَعِ الجِرَّةِ، وهو في ذلك جَلْدُ العقل والمقالة، حتى دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فأكَبَّ عليه وكشف عن وجهه ومسحه وقبّل جبينه وخدّيه، وجعل يبكي ويقول: «بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلِي، طبتَ حياً وميتاً وانقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد من الأنبياء والنبوة فعظُمَتْ عن الصفة المصيبة وجَلَلْتَ عن البكاء وخصصْتَ حتى صرت مسلاةً وعممتَ حتى صرنا فيك سواء، ولولا أن موتك كان اختياراً منك لجدنا لموتك بالنفوس، ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفذنا عليك ماء الشؤون. فأما ما لا تسطيع نفيه عنا فكَمَدٌ وإدناف يتحالفان لا يبرحان. اللهمّ فأبلِغْه عنا: اذكرنا يا محمّد عند ربّك ولنكن مِنْ بالِكَ، فلولا ما خَلَّفْتَ من السكينة لم نَقُمْ لما خلَّفته من الوَحْشَةِ، اللهمّ أبلغ نبيّك عنا واحفظه فينا»؟
ثم خرج لمّا قضى الناس عبراتهم، وقام خطيباً فخطب فيهم خطبة جُلُّها الصّلاة على النبي محمّد صلّى اللّه عليه وسلم فقال فيها: «أشهد أن لا إله إلاَّ اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، وأشهد أن الكتاب كما أنزل، وأن الدين كما شرع، وأن الحديث كما حدّث، وأن القول كما قال، وأن اللّه هو الحق المبين» في كلام طويل; ثم قال: «أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد اللّه، فإن اللّه حي لا يموت، وإن اللّه قد تقدم إليكم في أمره، فلا تَدَعُوه جزَعاً، وإن اللّه قد اختار لنبيّه ما عنده على ما عندكم وقبضه إلى ثوابه وخَلَّفَ فيكم كتابه وسنة نبيه، فمن أخذ بهما عرف ومن فرق بينهما أنكر»، (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقيرًا فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبيرًا)، «ولا يشغلنّكم الشيطان بموت نبيكم ولا يفتننكم عن دينكم وعاجلوا الشيطان بالخزي تعجزوه ولا تستنظروه فيلحق بكم».
فلما فرغ من خطبته قال: «يا عمر، أأنت الذي بلغني أنك تقول على باب نبي اللّه: والذي نفسُ عُمَر بيده ما مات رسول اللّه!»؟ أما علمت أن نبي اللّه قال يوم كذا كذا وكذا، وقال اللّه في كتابه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) فقال: «واللّه لكأني لم أسمع بها في كتاب اللّه قبل الآن لِما نَزَلَ بنا; أشهد أن الكتاب كما أنزل، وأن الحديث كما حَدَّثَ، وأن اللّه حي لا يموت وإنا للّه وإنا إليه راجعون صلوات اللّه على رسوله وعند اللّه نحتسب رسوله»; ثم جلس إلى أبي بكر.
وقد كان العباس قال لهم: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قد مات، وإني قد رأيت في وجهه ما لم أزل أعرفه في وجوه بني عبدالمطلب عند الموت»; فلم يرجعوا لقوله حتى كان من أبي بكر ما ذكرناه فرجعوا، صابرين محتسبين بقوة نفس وسكون جأش في الدين، ولو لم يظهر منه غير هذا الفعل لكان كافياً في العلم بفضله وما هو عليه من اجتماع ما هو مفترقٌ في غيره.
ثم ما كان من إنفاذه جيش أسامة ومخالفته للكافة في ترك إنفاذه، مع شدة خوفهم من الظفر من عدوّهم وقولهم: إن هذا الجيش فيه الحامية من نقباء المهاجرين والأنصار، وأهلُ الرِّدَّةِ قد أطلعوا رؤوسهم وساقوا المدينة، فانتظرْ بإنفاذه انكشافَ الرِّدَّة، فقال: «واللّه لأن أَخِرَّ من السماء فتخطَّفَني الطير وتنهشني السباع أحب إلي من أن أكون أول حالٍّ لعقد عقده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. أنفذوا جيش أسامَة». ونادى مناديه بخروجهم وسأل نقباء المهاجرين والأنصار عمر أن يسأل أبا بكر أن يصرف أسامة ويولّي من هو أسن وأدرب بالحرب منه، فسأله عمر ذلك، فوثب إليه وأخذ لحيته بيده فهزّها وقال: «ثكلتك أمك يا ابن الخطاب وعدمتك، أيوليّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وتأمرني أن أصرفه؟ واللّه لا يكون ذلك أبداً»; فأمرهم بالخروج وشيّعهم أبو بكر حافياً والعباس معه ومن بقي من الصحابة في المدينة، فما زال يدعو لهم ويأمر العباس بالتأمين على دعائه، وأسامة يقول: «إما أن تركب يا خليفة رسول اللّه أو أنزل»، وهو يقول: «لا واللّه لا أركب ولا تنزل، وماذا علي أن تَغْبَرَّ قدماي في تشييع غاز في سبيل اللّه تعالى». فنفذ الجيش وفتح اللّه لهم وغنم ورجع في نيف وستين يوماً ولَقِيَ بهم أهل الرِّدَّةِ.
ثم ما كان منه في قتال أهل الردّة وسدّه ثَلْمَ المدينة وخروجه لمناظلتهم بنفسه ومن معه حتى دفعهم قبل عود جيش أسامة، وندائه في المدينة ألاّ يُؤوِيَ أحدٌ أحداً من رسل أهل الردّة، لما وفَدُوا إليه الوفود يسألونه الصلح على ترك الزكاة، وقوله لما سألوه رفع السيف عنهم وأذعنوا بأداءِ الزكاة: «لا واللّه أو يقولوا إن قتلاهم في النار وقتلانا في الجنة».
ثم إنفاذ خالد بن الوليد ومن معه من الجيوش إلى أهل الردّة ومسيلمة ومن باليمامة من دعاة الكفر، حتى أبادهم واستأصل خضراءهم وأيَّد اللّهُ به الدِّينَ وكشف الغُمّةَ وأزال الكُرْبَةَ وردّ الحق إلى نصابه وانحسرت بيُمْنِه الفتنة وضعفت مُنَّةُ أهل الكفر وفشلوا قبل لقاء عسكره، حتى قال قائلهم المشهور شعرُه:
ألا عَلِّلاَنِي قبلَ جيش أبي بكر *** لعل منايانا قريبٌ وما ندري
لعل جيوش المسلمين وخالداً *** سيطرقنا قبل الصباح من البر
فصبَّحتهم الخَيْلُ. قال الراوي: فكان رأس هذا الشاعر أوَّلَ رأس رُمِيَ به تَدَكْدَك في باطئَةِ الجَمْرِ.
فكيف لا يصلح من هذه صفته لإمامة الأمة؟ هذا مع ما ظهر من علمه وانتدابه لجمع القرآن وأنه لم يتلعثم في حكم نزل في أيام نظره ولا رجع عنه، وقد جلس مجلس النبيّ وخلفه في أُمته وإن ذلك لأمرٌ عظيم. ثم ما كان من عهده إلى عُمر عند موته وتسديده في رأيه وتنبيهه القومَ على فضل رأيه ومكان نظره ما عمر بسبيله وما هو مخصوص به مما سنذكر طرفاً منه في باب إمامته.
وببعض هذه الأوصاف والخلال وتسديد التدبير والرأي والمقال يصلحُ ويستحق الإمامة»(1).

(1) التمهيد: 483 ـ 492.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *