1 ـ جهة المتن و الدلالة

أقول:
فإنكار أصل الخبر باطل مردود، فلا كلام من جهة السند، وتبقى:

1 ـ جهة المتن و الدلالة
وقد عرفت أن اللّفظة هي «الفلتة» لا «الفتنة» كما في كلام ابن روزبهان.
ويظهر كيفية ضبط لفظة «الفلتة» ومدلولها في هذا الخبر، بعد معرفة قائل الكلمة والوقوف على شيء من تفاصيل القضيّة، فاعلم:
إنه وإن أبهم البخاري وغيره اسم من قال تلك الكلمة في «منى»، فجاء في روايتهم: «بلغني أن قائلاً منكم يقول: واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً…». لكنّ الحافظ ابن حجر بيّن وعيّن «القائل» و «فلاناً»، فقال في مقدمة فتح الباري:
«لم يسمّ القائل ولا الناقل، ثم وجدته في الأنساب للبلاذري، بإسناد قوي، من رواية هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، بالإسناد المذكور في الأصل ]أي في البخاري نفسه[ ولفظه: قال عمر: بلغني أن الزبير قال: لو قد مات عمر بايعنا عليّاً».
هذا الزبير نفسه ـ الذي كان في قضية السقيفة في بيت الزهراء، وخرج مصلتاً سيفه، وأحاطوا به، وأخذوا السيف من يده ـ ينتظر الفرصة، فهو لم يتمكّن في ذلك الوقت أن يفعل شيئاً لصالح أمير المؤمنين، وما يزال ينتظر الفرصة.
وهناك أقوال أخرى في المراد من فلان وفلان، لكن السّند القويّ الذي وافق عليه ابن حجر العسقلاني وأيّده هذا، لأن الزبير وعليّاً لم يكونا وحدهما في منى، وإنما كانت هناك جلسة، وهؤلاء مجتمعون، فكان مع الزبير ومع علي غيرهما من عيون الصحابة وأعيان الأصحاب.
ثم يقول ابن حجر: «في مسند البزار والجعديّات بإسناد ضعيف: أن المراد بالذي يبايع له طلحة بن عبيد اللّه»(1).
إنه ـ بحسب هذه الرواية ـ كان ينتظر بعض الأصحاب فرصة موت عمر حتى يبايع طلحة، وطلحة ينتظر ذلك حتى يبايع له!
وفي تاريخ الطبري وغيره(2): إن القائل لبايعنا عليّاً هو عمّار بدل الزبير… وعمّار من أصحاب أمير المؤمنين منذ اليوم الأوّل.
أقول:
بل كلاهما، ومعهما غيرهما من الأصحاب أيضاً، ولذا جاء في كلام ابن حجر: «ووقع في رواية ابن إسحاق أن من قال ذلك كان أكثر من واحد»(3).
لكن العجيب هو اضطراب القوم في هذا الموضع أيضاً…!
فابن حجر ـ الذي نصَّ على ما تقدّم في المقدّمة، وذكر رواية البلاذري وأنها بسند قوي ـ لم يتعرّض لذلك بشرح الحديث أصلاً، بل ذكر هناك خبر طلحة ـ الذي نصّ على ضعفه في المقدّمة ـ فقال:
«قوله: لقد بايعت فلاناً. هو طلحة بن عبيد اللّه. أخرجه البزّار من طريق أبي معشر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه»(4).
لكن عندما نراجع القسطلاني في شرح الحديث، نجده يذكر ما ذكره ابن حجر في المقدّمة فيقول بشرح «لو قد مات عمر لبايعت فلاناً»:
«قال في المقدّمة ـ يعني قال ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري ـ : في مسند البزار والجعديّات بإسناد ضعيف: إن المراد… قال: ثم وجدته في الأنساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري بالإسناد المذكور في الأصل، ولفظه: قال عمر: بلغني إن الزبير قال: لو قد مات عمر لبايعنا عليّاً… الحديث.
وهذا أصح».
ويقول القسطلاني: «وقال في الشرح: قوله: لقد بايعت فلاناً، هو طلحة بن عبيد اللّه، أخرجه البزّار».
قرأنا هذا من شرح البخاري لابن حجر.
ثم ذكر: «قال بعض الناس لو قد مات أمير المؤمنين أقمنا فلاناً، يعنون طلحة بن عبيد اللّه، ونقل ابن بطّال عن المهلّب: أن الذي عنوا أنهم يبايعونه رجل من الأنصار، ولم يذكر مستنده»(5).
وأمّا الكرماني، فلم يتعرّض لشيء من هذه القضايا أصلاً، وإنما ذكر أن كلمة «لو» حرف يجب أن تدخل على فعل، فلماذا دخلت لو على حرف آخر «لو قد مات»، لماذا كلمة «لو» التي هي حرف دخلت على «قد» التي هي حرف؟ «لو» يجب أن تدخل على فعل، فلماذا دخلت على حرف؟ هذا ما ذكره الكرماني في شرح الحديث، وكأنه ليس هناك شيء أبداً.
وأمّا العيني ـ وهو دائماً يتعقب ابن حجر العسقلاني، لأن العسقلاني شافعي، والعيني حنفي، وبين الشوافع والحنفيّة خاصّة في المسائل الفقهيّة خلاف شديد ونزاعات كثيرة ـ فليس له هنا أي تعقيب، وحتى أنه لم يتعرّض للحديث الذي ذكره ابن حجر العسقلاني، وإنما ذكر رأي غيره، فلم يذكر شيئاً عن ابن حجر العسقلاني أصلاً، وإنما جاء في شرح العيني: قوله: «لو قد مات عمر» كلمة: قد، مقحمة: لأن لو لازم أن يدخل على الفعل، وقيل قد، في تقدير الفعل، ومعناه: لو تحقق موت عمر. قوله: لقد بايعت فلاناً يعني: طلحة بن عبيد اللّه، وقال الكرماني: هو رجل من الأنصار، وكذا نقله ابن بطّال عن المهلّب، لكن لم يذكر مستنده في ذلك». وهذا غاية ما ذكره العيني في شرح البخاري(6).
فتلخّص مما ذكرنا: إن القائل بأن بيعة أبي بكر كانت فلتةً، هم جماعة وليس رجلاً واحداً. وإنهم كانوا من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، ينتظرون موت عمر حتى يبايعونه.
وإن عمر ـ الذي لا يريد أن يكون الأمر لعلي عليه السلام ـ لمّا بلغته الكلمة غضب، وأراد أن يقوم خطيباً بمنى ويحذّر الناس من هؤلاء…!
فلمّا منعه أصحابه من ذلك حتى يقدم المدينة، قال: «أما واللّه ـ إن شاء اللّه ـ لأقومنَّ بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة».
وهناك ـ وفي أوّل جمعة أقامها ـ خطب… وذكر الكلمة التي قالها أصحاب أمير المؤمنين، وأقرَّ بها… ثم هدَّد بقتل المبايع والمبايع له، وهناك طرح فكرة الشورى، وتعيّن الخليفة عن طريقها… .
ثم رتّب الشورى بحيث لا يصل الأمر إلى علي عليه السلام!
وعلى ضوء ما تقدّم، يظهر مقصود أصحاب الإمام عليه السلام ومرادهم من كلمة «الفلتة»… فهم يريدون الإعلان عن عدم رضاهم بخلافة أبي بكر، وعن تقصيرهم في حق علي عليه السلام، وعن ندمهم على تفويت تلك الفرصة، فلو بادروا إلى بيعة الإمام عليه السلام قبل السقيفة أو في حينها لما كان ما كان، فلابدّ من انتهاز فرصة موت عمر، حتى لا يتكرّر التقصير ولا تستمرّ الحسرة.
ولكنّ القوم الذين يعلمون بهذا المعنى قطعاً، لا يريدون الإعتراف به، ولذا تراهم يتناقضون في بيان معنى «الفلتة»، وبعضهم لما رأى أن شيئاً من تلك المعاني لا يخلّصهم من الورطة ـ وهو لا يريد الإقرار بالحقيقة ـ لم يجد مناصاً من إنكار أصل القضيّة، وهي موجودة في البخاري وغيره، ومشهورة بين أهل العلم كما قال ابن تيمية!!
وعلى الجملة، فقد اختلفت كلماتهم في معنى لفظة «الفلتة» واضطربت توجيهاتهم للكلمة، لكنّها كلّها بمعزل عن الحق والصّواب، إذ يحاولون تأويل الكلمة بما يتناسب وعقيدتهم في بيعة أبي بكر، وإن صدرت من بعضهم بعض الإشارات بشرح قولة عمر: وقى اللّه شرّها.
ولا بأس بأن ننقل هنا ما جاء في تاج العروس، حيث قال:
«الفلتة ـ بالفتح ـ آخر ليلة من الشهر، وفي الصحاح: آخر ليلة من كلّ شهر، أو آخر يوم من الشهر الذي بعده الشهر الحرام، كآخر يوم من جمادى الآخرة. وذلك أن يرى فيه الرجل ثاره، فربما توانى فيه، فإذا كان الغد دخل الشهر الحرام ففاته… .
وفي الحديث: إن بيعة أبي بكر كانت فلتةً فوقى اللّه شرّها.
قيل: الفلتة هنا مشتقة من الفلتة آخر ليلة من الأشهر الحرم، فيختلفون فيها أمن الحلّ هي أم من الحرم، فيسارع الموتور إلى درك الثأر، فيكثر الفساد ويسفك الدماء. فشبّه أيام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالأشهر الحرم ويوم موته بالفلتة في وقوع الشرّ، من ارتداد العرب وتوقّف الأنصار عن الطاعة ومنع من منع الزكاة، والجري على عادة العرب في أن لا يسود القبيلة إلا رجل منها.
ونقل ابن سيده عن أبي عبيد: أراد فجأة، وكانت كذلك، لأنها لم ينتظر بها العوام… .
وقال الأزهري: إنما معنى الفلتة: البغتة… .
وقال ابن الأثير: أراد بالفلتة الفجأة… .
وقيل: أراد بالفلتة الخلسة، أي إن الإمامة يوم السقيفة مالت الأنفس إلى تولّيها ولذلك كثر فيها التشاجر… .
ووجدت في بعض المجاميع: قال علي بن سراج: كان في جواري جارٌ يتّهم بالتشيّع، وما بان ذلك منه في حال من الحالات إلا في هجاء امرأته، فإنه قال في تطليقها:
ما كنت من شكلي ولا كنت من *** شكلك يا طالقة البتّه
غلطت في أمرك أغلوطةً *** فأذكرتني بيعة الفلته»(7)
أقول:
إنه لما كانت الكلمة من أصحاب أمير المؤمنين، وهم قد قالوها في مقام التحسّر وبيان الغصّة على إضاعة الفرصة والندم على التواني، فليس مرادهم «الفجأة» ولا «البغتة»، بل يجوز أن يكون المراد هو المعنى الأوّل، المذكور في الصحاح والقاموس وغيرهما، ويجوز أن يكون المراد هو المعنى الأخير المذكور في الشعر عن بعض من يتّهم بالتشيّع… .
ومع ذلك كلّه، فإنهم لا يذكرون المعنى المراد الظاهر فيه اللّفظ، وخاصّةً مع القرائن المذكورة.
نعم، قد وجدت في كلام البدر الزركشي في شرح الحديث ما يلي:
«والفلتة ـ بفتح الفاء في المشهور ـ كلّ شيء فعل من غير رويّة.
وروى سحنون عن أشهب أنه كان يقولها بضمّ الفاء، وهو انفلات الشيء من الشيء، قال: ولا يجوز الفتح، لأن معناه: ما يندم عليه. ولم يكن بيعة أبي بكر ممّا يندم عليه.
وعلى الرواية المشهورة، فالمراد بها بغتةً وفجأةً، لأنه لم ينتظر بها العوام، وإنما ابتدرها الصّحابة من المهاجرين وعامّة الأنصار، لعلمهم أنه ليس لأبي بكر منازع ولا يحتاج في أمره إلى نظر ولا مشاورة، وإنما عوجل بها مخافة انتشار الأمر والشقاق حتى يطمع بها من ليس بموضع لها، فلهذا كانت الفلتة التي وقى اللّه بها الشرّ المخوف.
هكذا ذكره أحمد بن خالد في مسنده. حكى ذلك كلّه عيسى بن سهل في كتاب غريب ألفاظ البخاري»(8).
فالحمد للّه الذي أجرى على لسانهم الحق الذي طالما حاولوا كتمه، فاضطربوا وتخبّطوا… فإن اللّفظة إن كانت بضمّ الفاء، فهي دالةٌ على المعنى المقصود، وهو «انفلات الشيء من الشيء»، لأنّ الخلافة قد انفلتت ـ في عقيدة الزبير وعمّار وأمثالهما، الذين قالوا الكلمة في منى ـ من يد أمير المؤمنين وخرجت عن محلّها الذي أراده اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وآله.
وإن كانت بفتح اللاّم، فدلالتها على المقصود أوضح وأتم، لأنهم أرادوا بهذه الكلمة إظهار الندم على توانيهم وسكوتهم وخضوعهم للأمر الواقع، فكانوا يتحيّنون الفرصة للاستدراك وإرجاع الأمر إلى محلّه والحق إلى صاحبه.
ولا يخفى أن «أشهب» الذي نقل عنه الكلام المذكور في معنى «الفلتة» هو: «أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي ثم العامري ثم بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من أنفسهم» فهو عربيٌ أصيلٌ، وهو إمام فقيهٌ كما وصفوه، وهو مفتي مصر. ولد سنة 140 وتوفي سنة 204(9).
وإلى هنا ظهر معنى «الفلتة» التي قالها غير واحد من الصحابة الكبار، وأقرّها عمر بن الخطاب إلا أنه قال: «وقى اللّه شرّها».

(1) مقدمة فتح الباري: 337.
(2) تاريخ الطبري، الطبقات الكبرى 2 / 65، السيرة النبويّة لابن هشام 3 / 305، البداية والنهاية.
(3) فتح الباري في شرح البخاري 12 / 129.
(4) فتح الباري في شرح البخاري 12 / 129.
(5) إرشاد الساري 10 / 19.
(6) عمدة القاري 24 / 8 ، ذيل الرقم 6830 باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت.
(7) تاج العروس في شرح القاموس 1 / 568 ـ 569 «فلت».
(8) التنقيح في شرح الصحيح 3 / 1217.
(9) توجد ترجمته في تهذيب الكمال 3 / 296، سير أعلام النبلاء 9 / 500، تهذيب التهذيب 1 / 314، حسن المحاضرة في محاسن مصر والقاهرة 1 / 305 وغيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *