بين معاوية و إبليس

بين معاوية و إبليس
قال قدس سرّه: وقد أحسن بعض العقلاء في قوله: شرٌّ من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعته وجرى معه في ميدان معصيته! ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملائكة وكان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة! ولمّا خلق اللّه تعالى آدم وجعله خليفة في الأرض وأمره بالسجود فاستكبر! فاستحق الطّرد واللّعن.
الشرح:
قال ابن تيمية ـ فيما قال ـ : ما الدليل على أن إبليس كان أعبد الملائكة؟ وأنه كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة؟ أو أنه كان من حملة العرش في الجملة؟ أو أنه كان طاووس الملائكة؟ أو أنه ما ترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة وركعة؟ ونحو ذلك مما يقوله بعض الناس؟ فإن هذا أمر إنما يعلم بالنقل الصادق، وليس في القرآن شيء من ذلك، ولا في ذلك خبر صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم!!»(1).
أقول:
قد دأب الرجل على أن يخالف العلاّمة في كلّ شيء، حتى في مثل هذه الأمور، مما لا يجب الاعتقاد به بالضرورة كي يحتاج إلى دليل قطعي من كتاب أو سنّة… .
وإن مثل هذه الأشياء التي ذكرها العلاّمة طاب ثراه أوردها المفسّرون بتفسير قوله تعالى في سورة البقرة (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْليسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرينَ) فراجع تفاسير: الطبري والرازي والقرطبي والدر المنثور وغيرها(2).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المسماة بالقاصعة: «فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد اللّه ستة آلاف سنة، لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة».
قال قدّس سرّه: ومعاوية لم يزل في الإشراك وعبادة الأصنام، إلى أنْ أسلم بعد ظهور النّبي صلّى اللّه عليه وآله بمدّة طويلة، ثم استكبر عن طاعة اللّه في نصب أمير المؤمنين عليه السلام إماماً، وبايعه الكلّ بعد عثمان وجلس مكانه. فكان شرّاً من إبليس.
الشرح:
قال ابن تيمية ما ملخصه بلفظه: «قوله: إن معاوية لم يزل في الاشراك إلى أن أسلم. به يظهر الفرق فيما قصد به الجمع، فإن معاوية أسلم بعد الكفر وإبليس كفر بعد إيمانه» قال: «قد ثبت إسلام معاوية والإسلام يجب ما قبله، فمن ادّعى أنه ارتدّ بعد ذلك كان مدّعياً دعوى بلا دليل» قال: «من قال: إن معاوية استكبر عن طاعة اللّه في نصب أمير المؤمنين؟ ولم قلت: إنه علم أن ولايته صحيحة وأن طاعته واجبة عليه؟ وبتقدير أن يكون علم ذلك فليس كلّ من عصى يكون مستكبراً عن طاعة اللّه، والمعصية تصدر تارة عن شهوة، وتارة عن كبر، وهل يحكم على كلّ عاص بأنه مستكبر عن طاعة اللّه كاستكبار إبليس؟»(3).
أقول:
لم يكن كلام العلاّمة بذاك الغموض حتى لا يدرك هذا الرجل مقصده، فإن الجامع بين «إبليس» و«معاوية» هو «الاستكبار عن طاعة اللّه». فكما أن «إبليس» بعد تلك العبادات والإطاعات استحق اللعن، لاستكباره عن السجود لآدم مع سجود كلّ الملائكة، فكذلك معاوية، فإنه بعد تظاهره بالإسلام وإقامته للصّلاة وإيتائه للزكاة ـ كما ذكر ابن تيمية ـ في تلك المدّة من عمره، استكبر عن الانصياع للإمام الحق الواجب الإطاعة، واتبع غير سبيل المؤمنين، فاستحق اللّعن.
إلا أنه زاد على إبليس بدعوى الإمامة والخلافة، هذه الدعوى التي لم تكن من إبليس «فكان شرّاً من إبليس».

(1) منهاج السنّة 4 / 509 .
(2) تفسير الطبري 15 / 134، تفسير الرازي 2 / 237، 14 / 31، القرطبى 1 / 394، الدر المنثور 4 / 227.
(3) منهاج السنّة 4 / 515 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *